إلى عبارة، فيخيل لأصحاب النظر السطحية أن الأمر تكرار، ولكنه ليس كذلك، مثلما يقول مرة:{يشترون الضلالة بالهدى} ومرة لا يأتي بالهدى كثمن للضلالة ويقول: {يَشْتَرُونَ الضلالة} ، ولم يلتفتوا إلى أن هدى الفطرة مطموس عندهم هنا، ومثال آخر هو قول الحق:{يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}[المائدة: ٤١] .
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه:{يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} ، فكأن المسألة لها أصل عندهم، فالكلام المنزل من الله وضع - أولا - وضعه الحقيقي ثم أزالوه وبدَّلوه ووضعوا مكانه كلاما غيره مثل تحريفهم الرجم بوضعهم الحد مكانه.
أما قوله:{مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} فتفيد أنهم رفعوا الكلام المقدس من موضعه الحق ووضعوه موضع الباطل، بالتأويل والتحريف حسب أهوائهم بما اقتضته شهواتهم، فكأنه كانت له مواضع. وهو جدير بها، فحين حرفوه تركوه كالغريب المنقطع الذي لا موضع له، فمرة يبدلون كلام الله بكلام من عندهم، ومرة أخرى يحرفون كلام الله بتأويله حسب أهوائهم.
{وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} . فهم يقولون قولاً مسموعاً «سمعنا» ثم يقولون في أنفسهم «إنّا عصينا» . فقولهم:«سمعنا وعصينا» ففي نيتهم «عصينا» ، إذن فقولهم «سمعنا» يعني سماع أذن فقط. إنما «عصينا» فهي تعني: عصيان التكليف، وهم قالوا بالفعل سمعنا جهرا وقالوا عصينا سِرّاً أو هم قالوا: سمعنا، وهم يضمرون المعصية، «واسمع غير مسمع» ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الذي يُسْمِعُكم، بدليل أنكم قلتم: سمعنا، فماذا تريدون بقولكم: اسمع؟ هل تطلبون أن يسمع منكم لأنه يقول كلاماً لا يعجبكم وستردون عليه، أو أنتم تريدون استخدام كلمة تحتمل وجوهاً فتقلبونها إلى معانٍ لا تليق، مثل قولكم:«غير مُسْمع» ما يسرّك، أو «غير مسمع» أي لا سمعت؛ لأنهم يتمنون له - معاذ الله - الصمم، وقد تكون سباباً من قولهم: أسمع فلان فلاناً إذا سبّه وشتمه، فالكلام محتمل.