وفي فلسفة هذا الأمر نفسياً نجد أن المقترض عندما يقترض شيئا كبيرا لا يستطيع أن يتجاهله أو ينساه، ثم لا يمر بذهن الذي أقرض أن فلاناً مدين، بل وقد تبلغ الحساسية بالذي قدم القرض ألا يمر على المقترض يريد أن يسدد القرض. أما إن تحرك قلب الدائن على المدين، وجلس يفكر في قيمة الدين، فليُفهم أن عند الذي اقترض بعض ما يسدد به الدين، أي أن المدين عنده القدرة على الوفاء بالدَّيْن أو ببعضه، ذلك أن الله لا يُحرج من يَجِد ويجتهد في السعي لسداد دينه.
{وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً} . وقد يقول قائل: كان السياق اللفظي يقتضي أن يقول: «أقرضتم الله إقراضا» ؛ لكن الحق جاء بالقرض الحسن؛ لأن الإقراض هو العملية الحادثة بين الطالب للقرض والذي يقرض.
وسبحانه يضع القرض الحسن في يده، ولنا أن نتصور ما في يد الله من قدرة على العطاء. ومثل ذلك قوله الحق:{والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً}[نوح: ١٧]
و «أنبتكم» تعبر عن عملية الإنبات، والأرض تخرج نباتا لا إنباتا. فمرة يأتي الله بالفعل ويأتي من بعد ذلك بالمصدر من الفعل؛ لأنه يريد به الاسم. و «أنبت» يدل على معنى وينشئ الله لكم منها نباتا.
وهكذا قال الله عن القرض:{وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} وفي ذلك جواب للقسم، ومن بعد ذلك يقول سبحانه:{وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} وقد تكلمنا من قبل كثيرا عن الجنات. ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله:{فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} ألم يكن الذي كفر من قبل ذلك قد ضل سواء السبيل؟ بلى، إنه قد ضل فعلا، ولكن الذي ضل بعد أن جاء ذكر تلك النعم والثواب فيها فالضلال أكثر. وكلمة «سواء» نقرأها في القرآن ونراها في الاستعمالات اللغوية؛ كمثل قوله الحق:{لَيْسُواْ سَوَآءً}[آل عمران: ١١٣]