المصفّاة المنتفاة، فكل شاعر كان يقدم أفضل ما عنده من شعر. وكل خطيب كان يأتي بأحسن ما عنده من خطب. وبذلك كانت قريش تسمع أجود الكلمات. ولهذا كانت اللغة التي عندهم هي اللغة العالية. ولذلك عندما جيء لزمن كتابة القرآن كانت الوصية:
إن اختلف عليكم شيء فاكتبوه بلغة قريش؛ لأن لغة قريش أخذت من اللغات محاسنها. وبنو تميم والحجاز كانوا مختلفين في بعض الأشياء. ولذلك كنا نسمع - عندما نتعلم الإعراب - قول المعلم وهو يسألنا: هل «ما» حجازية أو تميمية؟ وهذا يدلنا على أن هناك خلافاً بين النطق في القبيلتين.
وفي الآية التي نحن بصددها ندغم ونقول:{مَن يَرْتَدَّ} وفي آية البقرة ننطقها دون إدغان فنقول: «ومن يرتدد» .
وكأن الحق جاء بآية على لغة الحجاز واية على لغة تميم، وذلك برهان جديد على أن القرآن لم يأت ليحقق سيادة القريش، إنما هو للناس كافة؛ لذلك نجد من كل لهجة كلمة، ليتضح أن القرآن لعموم الناس جميعهم.
وعندما نقرأ قول الحق:{مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}[المائدة: ٥٤]
نعلم أنه سبحانه يعلمنا أنه قادر على أن يأتي بأهل إيمان غير الذين ارتدوا عنه، تماماً كما أخبرنا من قبل:{وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
[البقرة: ٢١٧]
والقول هنا: خبر عن مصير المرتد إلى جهنم بعد أن تقوم الساعة.