لا تظلم عبداً مثقال ذرة، ولا شهادة - إذن - أكبر من شهادة الحق لرسوله بأنه رسول من الله. ولو شاء الحق لجعلكم كلكم مؤمنين، لكنه أراد للإنسان الاختيار. وحنان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على البشر هو الذي جعله يتمنى إيمانهم، لكن الحق يقول للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}[الشعراء: ٣ - ٤] .
أي أن الحق يأمر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يشفق على نفسه وألاّ يقتلها بالحزن عليهم لعنادهم وعدم إيمانهم. ولو أراد الحق لجعلهم جميعاً مؤمنين بآية منه؛ فمهمة الرسول هي البلاغ فقط. ولو شاء الحق لقهر الخلق جميعاً على الإيمان به كما سخّر الكون ليخدم الإنسان وليسبح الكون بحمد الله. لكنه سبحانه ترك للخلق الاختيار حتى يأتي إيمانهم مثبتاً صفة المحبوبية لله؛ لأن إيمان المختار هو الذي يثبت تلك المحبوبية. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما هو نذير وبشير بهذا القرآن المُنزَّل عليه بالوحي.
والنذارة تأتي هنا لأن المجال مجال شهادة؛ لأن الشهادة إنما تكون على خلاف، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعو إلى الإيمان، والمناوئون له يدعون إلى الكفر وإلى الشرك، وشهادة الله أكبر من كل شهادة أخرى. لذلك يقرر الحق هنا بأن الرسول نذير بالقرآن. وهذا خطاب موجه لتبليغ المعاصرين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولَمن وصله بعد ذلك أي شيء من القرآن، فكأنه قد رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووصله البلاغ عنه. فقد قال - سبحانه -: {وَمَن بَلَغَ} أي لأنذركم به وأنذر كل من بلغه القرآن من البشر جميعاً.
ويوجه الحق على لسان رسوله سؤالاً استنكارياً للمناوئين فيقول:{أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله آلِهَةً أخرى} . إنه سؤال من سائل يثق أن من يسمع سؤاله لا بد أن ينفي وجود آلهة أخرى غير الله. إنه سؤال يستنبط الإقرار من سامعه. والمثال على هذا ما عرضه الحق على رسوله من أمر قد حدث في عام ميلاده فيقول: