للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يَقُولُونَ} .

والحزن هو خروج النفس من سياق انبساطها؛ فالإنسان يكون في غاية الاستقامة والسرور عندما يكون كل جهاز من أجهزته يؤدي مهمته، فإن حدث شيء يخل بعمل أحد الأجهزة فذلك يورث الحزن. أو يكون الحزن انفعالا لمجيء وحصول أمر غير مطلوب للنفس.

لقد كان مطلب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يؤمن كل الذين استمعوا إلى البلاغ عنه، لكن البعض قاوم الإيمان، والبعض اتهم الرسول بالسحر أو الجنون أو قول الشعر، وها هوذا الحق يسلي رسوله فيقول: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ} أي إنك يا محمد لا بد لك أن تعلم أن أقوالهم هذه ليست متعلقة بك؛ لأنك - بإجماع الآراء عندهم - أنت الصادق الأمين. وهم إنما يكذِّبون بآياتي التي أرسلتها معك إليهم؛ لأن ماضيك معهم هو الصدق والأمانة، بدليل أن الكافر منهم كان لا يأمن أحداً على شيء من أمواله ونفائسه إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والإنسان لا يغش نفسه فيما يخصه. فكأن الله يريد أن يتحمل عن رسوله؛ لأن من يوجه إهانة للرسول إنما يوجهها للمرسِل له وهو الله جلت قدرته.

ولذلك يقول الحق: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} وسبحانه يبين لنا أن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان حريصاً أشد ما يكون الحرص على أن تستجيب أمته لداعي الحق، حتى يتأكد لدى المؤمنين قول الحق سبحانه وتعالى في رسوله: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: ١٢٨] .

ولا معنى للحرص إلا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحب إلا يفلت أحد من قومه عن منهجه وعن دينه. ولكن الحق سبحانه وتعالى جعل أمر الدين اختيارياً حتى يعلم من يجيء له طواعية ويقدر ألا يجيء، ومن لا يجيء وهو قادر أن يجيء.

إن الحق سبحانه وتعالى له سنن كونية في الكون يجريها على كل الخلق. وقد يتساءل قائل: وما الذي يجعل الحق سبحانه وتعالى يترك للكفر به مجالاً في دنياه؟ ولماذا يجعل الحق سبحانه وتعالى للشر مجالاً في دنياه ألا يحكمها بهندسة حكيمة؟ ونقول: لو لم يوجد للشر مضار تُفْزِّع الناسَ لما عرفوا للحق حلاوة. إذن فوجود الشر، ووجود الكفر، وآثار الكفر في الناس جبروتاً وقهراً واستذلالاً ينادي في الناس أنه لا بد من الإيمان، وأنه لا بد من وجود الخير. فلو لم يكن للشر مكان في الكون فما الذي يلفت الناس إلى الخير؟ ولذلك تجد أن هبات الإيمان عند المؤمنين لا تأخذ فتوتها إلا حين تجد قوماً من خصوم الإيمان يهيجون المؤمنين ويؤذونهم ويستفزونهم.

أما إذا صارت الدنيا إلى رتابة فربما فتر أمر الإسلام في نفوس المسلمين. ولذلك نجد المؤمنين بالله في غيرة دائمة؛ لأن هناك من يكفر بالله. فيقول لرسوله: {قَدْ نَعْلَمُ

<<  <  ج: ص:  >  >>