فإذا قرأت السورة التي بعد سورة الفيل مباشرة تجد أنها:{لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}[قريش: ١ - ٤] .
فكأن حفظ الكعبة من الهدم كان حفظاً من الله سبحانه وتعالى لسيادة قريش. ولذلك كان من الواجب أن تستقبل قريش رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالإيمان والشكر وفهم هذه النعمة وتقديرها، بدلاً من أن تقف من الإسلام هذا الموقف المتعنت وتحاربه هذه الحرب الرهيبة، ولكن بدلاً من ذلك فقد حدث العكس، وأحست قريش كذباً بأن الإسلام جاء ليهدد سيادتها فقامت تحاربه.
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لم تكن النداءات بالإسلام بعيدا عن هذه السيادة؟ لأن الحق قد أراد أن تكون صيحة الحق في جبروت الباطل وأن يواجه الإسلام في أول أيامه جبروت سادة الجزيرة العربية كلهم جميعا حتى يمحص الله قلوب المسلمين الأوائل. فهم من يحملون من بعد ذلك دعوة الإسلام في العالم؛ فلا يعتنق الإسلام منافق أو ضعيف الإيمان، بل يعتنقه أولئك الذين في قلوبهم إيمان حقيقي، ويتحملون كل مظاهر الاضطهاد والتعذيب بقوة إيمانهم.
لقد شاء الحق تبارك وتعالى أن يبدأ الإسلام في مكة ولم يجعل الله له النصر من مكة، وشاء سبحانه وتعالى أن يجعل نصر الإسلام من المدينة؛ لأن قريشا لو انتصرت دعوة واحد منها فهم سيحاولون احتواءه ليسودوا به الدنيا، وحينئذ سيقال: هم قوم قد تعصبوا لواحد منهم لتظل لهم السيادة، ويكون اعتناق الإسلام نفاقاً وليس إيماناً حقيقيا. ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى انتصار الإسلام من المدينة ليعلم الناس جميعاً؛ أن العصبية لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم تخلق الإيمان برسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ولكن الإيمان برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الذي خلق العصبية لمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
ولذلك شاء الله سبحانه وتعالى أن تكون هناك مواجهة شرسة بين حملة الإيمان