{لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مغارات أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} فالكلام إذن عن المنافقين الذين ذكر الحق أوصافهم، وعهودهم التي نقضوها، وحَلِفهم كذباً، وما يعيشه كل منهم من تناقض مَلَكاته، ذلك التناقض الذي يورثه الشقاء؛ لأن كل واحد منهم يُظْهِرُ غير ما يبطن ويخاف من انكشاف أمره. فيظل مضطرباً لأن ما بداخله يتناقض مع واقع حياته.
إن هذه الحالة هي عكس حالة المؤمن الذي يعيش حياة منسجمة؛ لأن ما في قلبه هو ما يحكيه لسانه، فضلاً عن انسجامه بالإيمان مع الكون الذي يعيش فيه، وكذلك فحالة المنافق تختلف عن حالة الكفر، فالكافر قد أعلن الكفر الذي في قلبه بلسانه. أما المنافق فله قلب يكفر ولسان ينطق كذباً بالإيمان. ولذلك فهو في تعب مستمر من أن ينكشف أمره، أو يعرف المؤمنون ما في قلبه؛ لأنه يُكِنّ الحقد لمنهج الله وإن كان يعلن الحب ظاهراً.
والإنسان إذا اضطر أن يمدح من يعاديه وأن يتظاهر له بالحب، فإن هذا السلوك يمثل ثقلاً نفسياً رهيباً يحمله على ظهره، وهكذا نرى أن المنافقين يُتعبون أنفسهم قبل أن يُتعبوا المجتمع، تماماً كالرجل البخيل الذي يتظاهر بأنه كريم، وكلما أنفق قرشاً ليؤكد هذا التظاهر فإن هذا القرش يذبحه في نفسه ويسبب له آلاماً رهيبة. وحتى يرتاح الإنسان مع الدنيا لا بد أن يرتاح مع نفسه أولاً ويتوافق مع نفسه.
ومن هنا نجد المنافقين حين يريدون أن يُنفِّثوا عما في صدورهم، فهم يَختَلُّون ببعضهم بعضاً بعيداً عن أعين وآذان المسلمين؛ ليُظهروا ما في نفوسهم من حقد وغِلّ وكراهية لهذا الدين، ويبحثون عن ملجأ يكونون آمنين فيه، أو مغارة في الجبل بعيداً عن الناس حتى لا يسمعهم أحد،