بتقنين تشريع القصاص قضية يريد أن يميت فيها لدد الثأر وحنق الحقد. فساعة تسمع كلمة قصاص وقتل، فمعنى ذلك أن النفس مشحونة بالبغضاء والكراهية، ويريد أن يصفي الضغن والحقد الثأري من نفوس المؤَمنين. إن الحق جل وعلا يعط لولي الدم الحق في أن يقتل أو أن يعفو، وحين يعطي الله لولي الدم الحق في أن يقتل، فإن أمر حياة القاتل يصبح بيد ولي الدم، فإن عفا ولي الدم لا يكون العفو بتقنين، وإنما بسماحة نفس، وهكذا يمتص الحق الغضب والغيظ.
وبعد ذلك يرقق الله قلب ولي الدم فيقول:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} .
وإذا تأملنا قوله:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} فلنلاحظ النقلة من غليان الدم إلى العفو. ثم المبالغة في التحنن، كأنه يقول: لا تنس الأخوة الإيمانية {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف} .
وساعة يقول الحق كلمة «أخ» فانظر هل هذا الأخ اشترك في الأب؟ مثل قوله تعالى:{وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} . ثم يرتقى بالنسب الإيماني إلى مرتبة الأخوة الإيمانية، فيقول:{إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} يعني إياكم أن تجعلوا التقاء النسب المادي دون التقائكم في القيم العقائدية.
والأصل في الأخ أن يشترك في الأب مثل:{وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} ، فإن كانوا إخوة من غير الأب يسمهم إخواناً، فإن ارتقوا في الإيمان يسمهم إخوة. وعندما وصفهم بأنهم إخوان قال:{واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} . لقد كانت بينهم حروب وبغضاء وشقاق، لم يصفهم بأنهم إخوة؛ لأنهم لازالوا في الشحناء، فوصفهم بأنهم إخوان، وبعد أن يختمر الإيمان في نفوسهم يصبحون إخوة.
ولننظر في غزوة بدر، هاهو ذا مصعب بن عمير، كان فتى قريش المدلل والمنعَّم الذي كانت تفوح منه رائحة العطر وملابسه من حرير؛ كان ذلك قبل إسلامه،