للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وزارَ القُدس مع والده، وسَمِعَ به، وبمدينة الخليل عليه الصَّلاة والسَّلام، وعَجْلون، وبَعْلَبك، وغيرها. وكتبَ مُصْحفًا كريمًا بخطِّ حَسَن، ونَسَخَ غيرَ ذلك، وحَفِظَ أكثر "التَّنْبيه"، و"الجُرْجانية".

وكان مرضه بالسُّل أكثر من ستة أشهر، وحَصَل له في المرض خَيْرٌ وإقبالٌ على الطاعة ومُلازمة للفَرائض في أوقاتِها مع الضَّعْف وقوَة المَرَض، وبلغَ من أمره أنه كان يُصَلِّي بالإيماء من شدّة الضَّعْف.

وقال له الوالد قبل موته بيوم: "أي شيءٍ تشتهي من المأكل"؟ قال: "أشتهي أن الله يغفر لي، وأن تَقْرأ القُرآن وتهديه إليّ". فلازم والده من ذلك الوَقْت قراءة سُبْع كامل في كل يوم، وكان يَجْعل خَتْمهُ يوم الجمعة دائمًا، ويَجْمعنا حوله ويهديها إليه، دامَ على ذلك قريبًا من ثمان سنين إلى أن تُوفِّي.

وتأخر عنده أربعون درهمًا كانت مختصّة به، فقال: "اقسموها نِصْفين بين المَسْجونين بسجن باب الصَّغير والجَذْمي"، ففُعِلَ ذلك يوم موته.

ولما اشتدّ به ألم الموت أكثرَ من ذِكْر الله تعالى والاستغاثة به ليخفّف عنه. وقال لنا: ادعوا لي بالتَّخْفيف، فتَضرَّعْنا واستغثنا، فسكنَ قليلًا، ثم قال لوالده: "اقرأ سورة يس". فشرعنا في القراءة، وهو يَقْرأ معا بمشقّة عَظِيمة، فختمناها، ثم قرأنا "الواقعة". فلما فرغنا قال: "أنا أموتُ السّاعة، فأحضِروا المُغَسِّل". فقال له والده: "إنه ما يحضر معنا إلّا بعد المَوْت". فقال: "أنا والله ميّتٌ في هذه السّاعة، فأسرِعُوا في إحضار المُغَسِّل والحوائج". فأذَّنَ العَصْر، فأجابَ المؤذِّن، فقال له أبوه: "مَن أحبَّ لقاءَ الله أحبَّ اللهُ لقاءه". فقال: "إنّي والله أحبّ لقاءَ الله". ثم قال: "أنا أرُوح إلى دار السَّعادة"، وكَرَّرها، ثم قال: "هذه دار الشقاء تُتْعِب وتقتل". فقال والده: "يا بُنيّ، ونحن نشتهي أن نكون من أهل دار السَّعادة". فقال: "آمين آمين".

<<  <  ج: ص:  >  >>