للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أقماره، وأين قُصَّاده، وأين زوَّاره؟ فبكت.

ثم قالت: يا شيخ كانوا فيه على سبيل العارية (١) ثم نقلتهم الأقدار إلى دار القرار.

وهذه عادة الدنيا، تُرحِّل من سكن فيها وتُسيء إلى ما أحسن إليها.

فقلت لها: يا جارية مررت بها في بعض الأعوام وفي هذا الروشن جارية تغني وتقول:

ألا يا دار لا يدخلك حزن

فبكت وقالت: أنا واللَّه تلك الجارية، ولم يبق من أهل هذه الدار أحد غيري، فالويل لمن غرَّبته دنياه.

قلت لها: كيف قرُّبك القرار في هذا الموضع الخرَاب؟

قالت: ما أعظم جفاك (٢)، أما كان هذا منزل الأحباب، وأنشدت:

قالوا تفنى وقوفًا في منازلهم … ونفس مثلك لا تفنى تحملها

قفلت والقلب قد ضحت أضالعه … والروح تنزع والأشواق تبريها

منازل الحب في قلبي معظمة … وإن خلا من نعيم الوصل منزلها

فكيف أتركها والقلب يتبعها … جاء لمن كان قبل اليوم ينزلها

فتركتها ومضيت وقد وقع شعرها من قلبي موقعًا، وازداد قلبي تولعًا.

نادرة: قال بعض العارفين: لو كانت الدنيا ذهبًا فانيًا والآخرة خزفًا باقيًا، لكان الخزف الباقي أولى من الذهب الفاني (٣).


(١) تعريف العارية قد مر من قبل وقال الحنابلة: العارية معناها العين المعارة وهي المأخوذة من مالكها أو مالك منفعتها للانتفاع بها زمنا معينا بلا عوض.
وتطلق العارية على الإعارة مجازًا والإعارة هي إباحة نفع العين بغير عوض من المستعير أو غيره.
انظر الفقه على المذاهب الأربعة (٣/ ٢٤٩).
(٢) جفا الشيء. جفاءً، وجفوا: نبا وبَعُد، وجفا فلان عليه: أعرض عنه وقطعه.
(٣) روى الترمذي في سننه (٢٣٢٠) في الزهد باب ما جاء في هوان الدنيا على اللَّه ﷿، عن سهل بن سعد قال: قال رسول اللَّه : "لو كانت الدنيا تعدل عند اللَّه جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء" - وقال: صحيح. ورقم (٢٣٢١) عن المستورد بن شداد قال: كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول اللَّه على السخلة الميتة فقال رسول اللَّه "أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها، قالوا: من هوانها ألقوها يا رسول اللَّه، قال: فالدنيا أهون على اللَّه من هذه على أهلها".

<<  <  ج: ص:  >  >>