للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فكيف والأمر بالعكس، بل هي أجل وأفضل من الذهب المذكور.

مخلوقة من فاخر الجوهر والنور، ذات اللَّذات والنعيم والسرور.

في طلب الدنيا الذُّل، والآخرة العزّ.

فيا عجبًا لمن يختار الدنى في طلب الفاني، ويترك العز في طلب الباقي.

وما أحسن قول الإمام الشافعي (١) في ذم الدنيا.

ومن يذق الدنيا فإني طعمتها … وسبق إلينا عَذْبها وعذابها

فلم أرها إلَّا غرورًا وباطلًا … كما لاح في ظهر الفلاة سرابها

فما هي إلَّا جيفة مستحيلة … عليها كلاب همهن اجتذابها

فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها … وإن تجتذبها نازعتك كلابها

ومن شعره البديع (٢):

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي … جعلت الرجا مني لعفوك سلما

تعاظمني ذنبي فلما قرنته … بعفوك ربي كان عفوك أعظما

فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل … بجودك تعفو منةً وتكرُّما

ولولاك لم يغو بإبليس عابد … فكيف وقد أغوى صفيك آدم

فيا ليت شعري هل أصرْ لجنةٍ … أهنأ وإما في السعير فأندما (٣)


(١) كان الشافعي يقول: طلب فضول الدنيا عقوبة عاقب اللَّه بها أهل التوحيد، وكان يمشي على العصا فقيل له في ذلك فقال: لأذكر أني مسافر من الدنبا، وكان يقول من شهد الضعف من نفسه نال الاستقامة، وكان يقول من غلبته شدة وشهوة للدنيا لزمته العبودية لأهلها، ومن رضي بالقنوع زال عنه الخضوع. انظر الطبقات الكبرى (١/ ٤٣).
(٢) سبب هذا الشعر ما ذكره الذهبي قال: وقال ابن خزيمة وغيره: حدثنا المزني قال: دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه فقلت: يا أبا عبد اللَّه كيف أصبحت؟ فرفع رأسه وقال: أصبحت من الدنيا راحلًا، ولإخواني مفارقًا، ولسوء عملي ملاقيًا، وعلى اللَّه واردًا، ما أدري روحي تصير إلى جنة فأهنؤها أو إلى نار فأعزيها ثم بكى وأنشأ يقول هذا الشعر وذكره الذهبي. انظر تاريخ الإسلام للذهبي وفيات (٢٠١ - ٢١٠).
(٣) ومن شعره أيضًا قال المبرد: دخل رجل على الشافعي فقال: إن أصحاب أبي حنيفة لفصحاء فأنشد الشافعي يقول:
فلولا الشعر بالعلماء يزري … لكنت اليوم أشعر من لبيد
وأشجع في الوغى من كل ليث … وآل مهلب وأبي يزيد
ولولا خشية الرحمن ربي … حسبت الناس كلهم عبيدي
ولما بلغه قول أشهب بن عبد العزيز في دعائه: اللهم أمت الشافعي ولا تذهب علم مالك، =

<<  <  ج: ص:  >  >>