وأخذنا مضاجعنا، فقال: يا قوم هذا الملك الذي دللتموني عليه ينام إذا جنَّهُ الليل؟ قلنا: لا، هو حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، قال: فبئس العبيد أنتم؛ تنامون ومولاكم لا ينام، فأعجبنا كلامه، فلما قدمنا عبادان، قلت لأصحابي: هذا قريب العهد بالإسلام، فجمعنا له دراهم وأعطيناه، فقال: ما هذا، لا إله إلا اللَّه، دللتموني على طريق لم تسلكوها، إذا كنت في جزيرة من جزائر البحر أعبد صنما من دونه، فلم يضيعني، وأنا لا أعرفه، أفيضيعني الآن وأنا أعرفه؟!! فلما كان بعد ثلاثة أيام قيل لي: إنه في الموت فأتيته، فقلت له: هل لك من حاجة؟ قال: قد قضى حوائجي من جاء بكم إلى الجزيرة، فغلبتني عيني، فرأيت روضة خضراء بها قبة، وفي القبة سرير وعليه جارية حسناء لم يُر أحسن منها، وهي تقول: باللَّه إلا ما عجلتم به إليّ، فقد اشتد شوقي إليه، فاستيقظت فإذا به قد فارق الدنيا، فغسلته وكفنته وواريته في التراب، فلما كان الليل رأيته في منامي في تلك القبة، وهو إلى جانب الجارية، وهو يقرأ هذه الآية: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ﴾ [الرعد: ٢٣] الآية.
الثانية: قال عبد اللَّه بن أبي نوح: لقيت رجلا من العبَّاد في بعض الجزائر منفردًا، فقلت: يا أخي ما تصنع هنا وحدك، أما تستوحش؟ فقال: الوحشة في غير هذا الموضع أعم، قلت: كم أنت هاهنا؟ قال: منذ ثلاثين سنة، قلت: من أين المطعم؟ قال: من عند المنعم، قلت: فما هنا بالقرب منك شيء تعول عليه إذا احتجت إلى المطعم، ورجعت إليه؟ قال: ما همك بما قد كفيته، وضُمن لك؟ قلت: أخبرني بأمرك؟ قال: ما لي أمر غير ما ترى؛ أظل في هذا الليل، وهذا النهار متوكلا على من لا تأخذه سنة ولا نوم، ثم صاح صيحة أفزعتني فوثبت، وسقط مغشيًا عليه، فتركته على تلك الحالة ومضيت، رحمه اللَّه تعالى، ونفعنا به.
وأنشدوا في هذا المعنى:
حقيقة العبد عندي في توكله … سكوت أحشائه عن كل مطلوب
وإن تراه لكل الخلق مُطَّرحًا … يصون أسراره عن كل محبوب
الثالثة: حكى الأصمعي -رحمه اللَّه تعالى- قال: أقبلت ذات يوم من المسجد الجامع بالبصرة، فبينا أنا في بعض سككها إذ طلع أعرابي على قعود متقلدًا سيفه، وبيده قوس، فدنا وسلم، وقال لي: من الرجل؟ قلت: من بني الأصمع، قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم، قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟! قلت: نعم، قال: اتل عليَّ شيئًا منه، فقلت له: انزل عن قعودك، فنزل، فابتدأت سورة والذاريات، حتى انتهيت إلى قوله تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ