للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حليما ذا أناة، يا من لا يعرف عباده منه إلا الجميل أن تسقيهم الساعة الساعة (١) فلم يزل يقول: الساعة الساعة حتى استترت السماء بالغمام، وأقبل المطر من كل مكان.

وجلس مكانه، وأخذت أبكي، فلما قام اتبعته حتى عرفت موضعه، فجئت إلى الفضيل بن عياض فقال ما لي أراك كئيبا؟ فقلت: سعى إليه غيرنا فتولاه دوننا. قال: وما ذاك؟ فقصصت عليه القصة، فصاح وسقط وقال: ويحك يا ابن المبارك خذني إليه. قلت قد ضاق الوقت وسأبحث عن شأنه، فلما كان من الغد صليت الغداة، وخرجت أريد الموضع (٢) فإذا شيخ على الباب قد بسط له، وهو جالس، فلما رآني عرفني وقال: مرحبا بك يا أبا عبد الرحمن، ما حاجتك؟

فقلت له: احتجت إلى غلام أسود. فقال: نعم عندي عدة فاختر أيهم شئت، وصاح: يا غلام، فخرج غلام جلد، فقال: نعم هذا محمود العافية أرضاه لك، فقلت: ليس هذا حاجتي، فما زال يخرج لي واحدا بعد واحد حتى أخرج لي الغلام المذكور، فلما بصرت به برزت عيناي، فقال هذا هو؟ قلت: نعم. قال: ليس إلى بيعه سبيل. قلت: ولِمَ؟

قال: قد تبركت لموضعه في هذه الدار، وذلك أنه لا يرزأني (٣) شيئا، قلت: ومن أين طعامه؟ قال: إن يكسب بثمن فتل (٤) الشريط كل يوم نصف دانق (٥) أو أقل أو أكثر فهو قوته، فإن باعه في يومه وإلا طوى ذلك اليوم، وأخبرني عنه الغلمان أنه لا ينام هذا الليل الطويل ولا يختلط بأحد منهم، وهو مهتم بنفسه، وقد أحبه قلبي.

فقلت: انصرف إلى سفيان الثوري والفضيل بن عياض بغير قضاء حاجتهما؟


(١) روى البخاري في صحيحه (١٠١٣) في الاستسقاء عن أنس أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وِجاه المنبر ورسول اللَّه قائم يخطب فاستقبل رسول اللَّه قائما فقال: يا رسول اللَّه هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع اللَّه يغيثنا، قال: فرفع رسول اللَّه يديه فقال: "اللهم اسقنا اللهم اسقنا. . . . " إلى آخره.
وروى أبو داود في سننه (١١٦٩) عن جابر رفعه: "اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا، نافعا غير ضار، عاجلا غير آجل" قال: فأطبقت عليهم السماء.
(٢) هناك من العباد من عنده من الشغف والحب ما ليس تكفيهم الواجبات، بل قلوبهم متلهفة إلى اللَّه من عوائف هذه الدار الفانية، ويحبون أن يكونوا دائما في ذكر اللَّه وطاعة اللَّه، ولو لم يحجر عليهم التنفل بالصلاة في أوقات النهي لوصلوا الليل بالنهار ولحملوا أنفسهم فوق ما يطيقون. [انظر هامش قطر الولي على حديث الولي (ص ٢٥٩)].
(٣) رزأه رزءًا أصابه بمصيبة، ورُزي ولده: فقده، والرزيئة: المصيبة، جمعها رزايا.
(٤) فتل الحبل وغيره فتلا: لواه وبرمه، فهو مفتول، ويقال فتل الشيء فتله.
(٥) الدانق سدس الدرهم، جمعها دوانق - دوانيق.

<<  <  ج: ص:  >  >>