للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقال: عن ممشاك عندي لكبير، خذه بما شئت.

فاشتريته، وأخذت به نحو دار الفضيل، فمشيت ساعة، ثم قال لي: يا مولاي، قلت لبيك، فقال: لا تقل لبيك، فإن العبد أولى أن يلبي مولاه، فقلت: ما حاجتك يا حبيبي؟ قال أنا ضعيف البدن لا أطيق الخدمة، وقد كان لك في غيري سعة، وقد أخرج إليك ما هو أجلد (١) مني، قلت: لا يراني اللَّه أستخدمك، ولكن أشتري لك منزلا وأزوجك وأخدمك أنا بنفسي، فبكى، فقلت له: ما يبكيك؟

قال: أنت لم تفعل بي هذا إلا وقد رأيت بعض صلاتي للَّه تعالى، وإلا فلم اخترتني من بين أولئك؟ فقلت له: ليس بك حاجة إلى هذا. فقال: سألتك إلا ما أخبرتني. فقلت له: بإجابة دعوتك، فقال لي: أحسبك إن شاء اللَّه رجلا صالحا، إن للَّه ﷿ خبرة في خلقه لا يكشف شأنهم إلا لمن أحب من عباده، ولا يُظْهِر عليهم إلا من ارتضى من خلقه (٢)، ثم قال: ترى أن تقف عليَّ قليلا، فإنه قد بقيت عليَّ ركعات من البارحة، قلت: هذا منزل الفضيل قريب، قال: لا ههنا أَحَبَّ إليَّ، أمر اللَّه ﷿ لا يؤخر.

فدخل المسجد فلا زال يصلي حتى أتى على ما أراد، ثم التفت إليَّ وقال: يا أبا عبد الرحمن هل من حاجة؟ قلت: لِمَ؟ قال: إني أريد الانصراف. قلت: إلى أين؟ قال إلى الآخرة، فقلت: لا تفعل، دعني أسرُّ بك.

فقال: إنما كانت تطيب الحياة حيث كانت المعاملة بيني وبينه، فأما إذا اطلعت عليها فسيطلع عليها غيرك، ولا حاجة لي في ذلك، ثم خر لوجه فجعل يقول: إلهي اقبضني الساعة الساعة، فدنوت منه فإذا هو قد مات (٣). فواللَّه ما ذكرته إلا طال حزني


(١) الجَلَدُ: القوة والصبر على المكروه، جمعها: أجلاد وجِلاد. قال ابن سعد: ولد الفضيل بخراسان بكورة أبيورد، وقدم الكوفة وهو كبير فسمع من منصور وغيره، ثم تعبد ونزل مكة، وكان ثقة نبيلا فاضلا عابدا كثير الحديث، وكان إماما ثقة زاهدا عابدا نبيها صمدانيا، كبير الشأن، توفي سنة (١٨٧) تاريخ الإسلام وفيات (١٨١ - ١٩٠).
(٢) قال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (٢٧)﴾ وهذا يعم الرسول الملكي والبشري، وهذا كقوله: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ [البقرة: ٢٥٥].
(٣) قال تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٤]. ويقول تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾ [الأعراف: ٣٤] أي ميقاتهم المقدر لهم ﴿لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٤] ثم أنذر تعالى بني آدم أنه سيبعث إليهم رسلا يقصون عليهم آياته، وبشر وحذر: ﴿فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الأعراف: ٣٥]. [تفسير ابن كثير (٢/ ٢١٦)].

<<  <  ج: ص:  >  >>