للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعتبار، ومحبتهم افتخار، وهم صفوة الأبرار، ورهبان أحبار، مدحهم الجبار، ووصفهم النبي المختار، إن حضروا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، وإن ماتوا لم يُشْهَدُوا، قال: فأُنسيت الدنيا عند حديثه، ثم ولى هاربًا، وأنا متأسف عليه.

الخامسة: عن بعض الصالحين قال: حججت سنة من السنين، وكانت سنة كثيرة الجدب (١) والسَّموم، فلما كان ذات يوم وقد توسطنا أرض الحجاز، انقطَعْتُ عن الحجاج وغفوت قليلًا، فلم أشعر إلا وأنا وحدي في البرية، فلاح لي شخص أمامي مسرعًا، فلحقته وإذا به غلام أمرد لا نبات بعارضيه كأنه القمر المنير والشمس الضاحية، وعليه أثر الدَّلال والترف، فقلت: السلام عليك يا غلام، فقال: وعليكم السلام يا إبراهيم، فتعجبت منه كل العجب، ورابني أمره، فلم أتمالك أن قلت: يا سبحان اللَّه!! من أين تعرفني، ولم ترني قبلها؟!! فقال لي: يا إبراهيم ما جهلت منذ عرفت ولا قطعت منذ وصلت. فقلت: ما الذي أوقفك في هذه البرية في مثل هذه السنة الكثيرة الجدب والقيظ؟ فأجابني: يا إبراهيم ما آنست بسواه، ولا وافقت غيره، وأنا منقطع إليه بالكلية، مُقرٌّ له بالعبودية، فقلت له: من أين المأكول والمشروب؟ فقال: تكفل لي به المحبوب، فقلت: واللَّه إني خائف عليك لأجل ما ذكرت لك، فأجابني ودموعه تنحدر كاللؤلؤ الرطب وأنشأ يقول:

من ذا يخوفني بالبر أقطعه … إلى المحب وقد قدمت إيمانًا

الحب أقلقني والشوق أزعجني … ولا يخاف محب اللَّه إنسانًا

فلو أجوع فذكر اللَّه يشبعني … ولا أكون بحمد اللَّه عطشانًا

وإن ضعفت فوجد منه يحملني … من الحجاز إلى أقصى خراسانا

فهل لصغري تكون اليوم تحقرني … دع عنك عذلك لي قد كان ما كانا

قال: فقلت له: سألتك باللَّه يا غلام إلا أعلمتني حقيقة عمرك؟ قال: فلقد آليت عليَّ بأجلّ الأيمان عندي، عمري اثنا عشر سنة، ثم قال: ما ألجأك إلى ذلك؟ فقلت: أذهلني ما سمعته منك، فقال: الحمد للَّه على ما أولانا من نعمه وفَضَّلَنَا على كثير من عباده المؤمنين، قال: فتعجبت من حسن وجهه وبهاء طلعته وحلاوة منطقه، فقلت: سبحان الخالق المصور (٢) فأطرق الغلام إلى الأرض مليًا، ثم رفع رأسه ينظر


(١) جدب المكان جدبًا: يبس لاحتباس الماء عنه، ويقال أجدبت السنة: صار بها جدب، والقوم أصابهم الجدب، والأرض وجدها جدبة.
(٢) الخالق المقدِّر، وحمل المفسرون قوله تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: ١٤] على معنى التقدير. المصور: المرتب للصور والمخترعات. "انظر سلاح المؤمن لابن الإمام [ص ٢٥٩] ".

<<  <  ج: ص:  >  >>