للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شزرًا وهو يقول:

ويحي إذا كان الجحيم جزائي … ماذا يحل ببهجتي وبهائي

يُبْلي العذاب محاسني ويشينها … ويطول مني بالجحيم بكائي

ويقول لي الجبار … أنسيت عهد ثَمَّ يوم لقائي

وترى وجوه الطائعين كأنها … بدر بدا في ليلة ظلماء

كشفوا الحجاب فعاينوه فأدْهِشُوا … ونسوا نعيمهم وكل رجائي

وكساهم حلل المهابة والرضا … وحبا الوجوه بنظرة وبهاءِ

ثم قال: يا إبراهيم اعلم أن المنقطع من قطعه الحبيب، والمواصل من أخذ من الطاعة بنصيب، ولكن أنت المنقطع عن الحاج يا إبراهيم، فقلت له: نعم، أنا ذلك، سألتك باللَّه إلا دعوت لي أن ألحق من سبقني من أصحابي، قال: فنظرت الغلام قد لمح بطرفه إلى السماء، وتكلم بكلام حرك بها شفتيه، فعند ذلك لحقتني سِنَةٌ وأُغْمِيَ عليَّ، فلم أفق إلا وأنا في وسط الحاج، وزميلي يقول: يا إبراهيم احذر أن تقع عن الراحلة، ولم أدر أصعد الغلام إلى السماء أم نزل إلى الأرض، فلما وقفنا بعرفة ودخلت الحرم، فإذا أنا به متعلق بأستار الكعبة، وهو يبكي ويقول:

تعلقت بالأستار والقبر زرته … وأنت بما في القلب والسر أعلم

أتيت إليه ماشيًا غير راكب … لأني على صغري محب متيم (١)

هويتك طفلًا حيث لا أعرف المأوى … فلا تعذلوني إنني متعلم

وإن كان قد حانت لديك منيتي (٢) … لعلي بوصلك منك أحظى وأغنم

قال: ثم أرخى نفسه ووقع ساجدًا وأنا أنظر إليه، فحركته فإذا هو قد مات، فتأسفت عليه كل الأسف، ومضيت إلى راحلتي وأخذت ثوبًا، واستعنت بمن يساعدني عليه حتى أواريه، فأتيت إليه فلم أجده، فسألت عنه الحاجَّ جميعه فلم أر له خبرًا، فعلمت أنه قد ستر عن أعين الخلق وأنه لم يره غيري، فأتيت إلى مكاني وأغفيت قليلًا، فرأيته في المنام في موكب عظيم، وهو في أوائلهم، وعليه من النور والحلل ما لا أحسن وصفه، فقلت له: ألست صاحبي؟ قال: نعم، فقلت له: ألست مت؟ قال: قد كان ذلك، فقلت له: واللَّه لقد طلبتك أُكفنك وأصلي عليك فلم أجدك؟ فقال: يا إبراهيم اعلم أن الذي من بلدي أخرجني، وبحبه شوقني، وعن


(١) تام الهوى فلانًا تيمًا: استولى عليه وذهب بعقله، وتيمه الهوى أو الحبيب تامه.
(٢) المنية: الموت، جمعها: منايا.

<<  <  ج: ص:  >  >>