للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أملي غربني، هو كفنني، ما أحوجني، فقلت له: ما فُعل بك بعد ذلك؟ قال: أوقفني بين يديه وقال: ما بُغْيَتُكَ؟ فقلت: أنت، فقال: أنت عبدي حقًا حقًا، ولك عندي أن لا أحجب عنك، فما تريد؟ قلت: أن تشفعني في القرن الذي أنا فيه، قال: قد شفعتك فيه (١)، ثم إنه صافحني، واستيقظت وقضيت بقية مناسكي، ولم يفتر قلبي من ذكره، وصارت يدي لها رائحة من تلك المصافحة، فلم تزل في يده حتى قضى نحبه.

السادسة: عن مالك بن دينار قال: خرجت حاجًّا فإذا بشاب يمشي بلا زاد ولا راحلة، فسلمت عليه، فرد السلام، فقلت: أيها الشاب من أين؟ قال: من عنده، قلت: وإلى أين؟ قال: إليه، قلت: وأين الزاد؟ قال: عليه، قلت: إن الطريق لا يقطع إلا بالماء والزاد، فهل معك شيء؟ قال: نعم؛ تزودت عند خروجي بخمسة أحرف، قلت: ما هي؟ قال: كهيعص (٢)، قلت: وما معناها؟ قال: الكاف من الكافي، والهاء من هادي، والياء من مؤوي، والعين من عالم، والصاد من صادق، فمن كانت صحبته ذلك لا يضيع ولا يخشى ولا يحتاج إلى حمل ماء وزاد، قال: فلما سمعت كلامه نزعت قميصي على أن ألبسه إياه، فأبى أن يقبله، وقال: العُرْيُ خير من قميص الفناء، حلالها حساب وحرامها عذاب، وكان إذا جنَّه الليل يرفع رأسه نحو السماء ويقول: يا من تسره الطاعات ولا تضره المعاصي هب لي ما يسرك واغفر لي ما لا يضرك، فلما أحرم الناس ولبوا قلت: لم لا تلبي؟ فقال: يا شيخ أخشى أن أقول لبيك،


(١) مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلًا ووجوبها سمعًا بصريح قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾ [طه: ١٠٩]، وقوله: ﴿لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [الأنبياء: ٢٨] وأمثالها، وبخبر الصادق ، وقد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين، وأجمع السلف والخلف ومن بعدهم من أهل السنن عليها، ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها، وتعلقوا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار، واحتجوا بقوله تعالى: ﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ [المدثر: ٤٨]، وبقوله تعالى: ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ [غافر: ١٨]، وهذه الآيات في الكفار، وأما تأويلهم أحاديث الشفاعة بكونها في زيادة الدرجات فباطل، وألفاظ الأحاديث في الكتاب وغيره صريحة في بطلان مذهبهم وإخراج من استوجب النار. "النووي في شرح مسلم [٣/ ٣١] طبعة دار الكتب العلمية".
(٢) اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور، فمنهم من قال هي مما استأثر اللَّه بعلمه فردوا علمها إلى اللَّه ولم يفسروها، حكاه القرطبي في نفسيره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود، وقاله الشعبي والثوري والربيع، واختاره ابن حبان، ومنهم من فسرها، واختلف هؤلاء في معناها، فقال عبد الرحمن بن أسلم: هي أسماء السور، وقال الزمخشري: وعليه إطباق الأكثر، وقال مجاهد: هي فواتح افتتح اللَّه بها القرآن. "تفسير ابن كثير [١/ ٣٦] ".

<<  <  ج: ص:  >  >>