للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الكلام؟!! فالتفتت إليَّ وقالت:

لولا التقى لم ترني … أهجر طيب الوسن

إن التقى شردني … كما ترى عن وطني

أفر من وجدي به … فحبه هيَّمني (١)

ثم قالت: يا جنيد تطوف بالبيت أم برب البيت، فقلت: أطوف بالبيت، فرفعت رأسها إلى السماء وقالت: سبحانك سبحانك ما أعظم مشيئتك في خلقك، خلق كالأحجار يطوفون بالأحجار، ثم أنشأت تقول:

يطوفون بالأحجار يبغون قربة … إليك وهم أقسى قلوبًا من الصخر

وتاهوا فلم يدروا من التيه من هم … وحلوا بجار القرب في باطن الكفر

وقد أخلصوا في الود غاية صفاتهم … وقامت صفات الود للحق بالذكر

قال الجنيد (٢): فغشي عليَّ من قولها، فلما أفقت لم أرها.

وسيكون لنا عودة إلى هذه الحكاية في مجلس الحج -إن شاء اللَّه تعالى- فإنها تليق به.

التاسعة: عن ذي النون المصري قال: رأيت امرأة في تيه بني إسرائيل عليها مدرعة من شعر وخمار من صوف، وفي كفها عُكَّز من حديد، فقلت: السلام عليك، فردت ثم قالت: وذا للرجال وخطاب النساء عافاك اللَّه، فقلت: أخوك ذو النون، فقالت: مرحبًا بك، حياك اللَّه بالسلام، قلت: ما تصنعين ههنا؟ قالت: كلما أتيت إلى بلد يعصى فيه الحبيب يضيق عليَّ فانا أطلب بقعة طاهرة أخرّ عليها ساجدة أناجيه بقلب ذاب من شدة الشوق إلى لقائه.

قلت: ما سمعت أحدًا يذكر الحبيب أحسن من ذكرك، فأي شيء المحبة؟ فقالت: سبحان اللَّه! أنت الحكيم الواعظ تسألني!! أول المحبة تبعث على الكدّ الدائم، حتى إذا وصلت أرواحهم إلى أعلى الصفاء جرَّعتهم من محبته لذيذ الكؤوس ثم صرخت مغشيًا عليها، فلما أفاقت قالت: (٣)


(١) هام فلان هيمانًا: خرج على وجهه في الأرض لا يدري أين يتوجه، وهام بفلانة: شغف بها.
(٢) من أقوال الجنيد: ما أخذنا التصوف عن القال والقيل، لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات، وعن الجنيد قال: أعلى درجة الكبر أن ترى نفسك، وأدناها أن تخطر ببالك يعني نفسك، وقال أبو علي الروذباري: قال الجنيد: سألت اللَّه أن لا يعذبني بكلامي، وربما وقع في نفسي أن زعيم القوم أرذلهم. "تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات [٢٩١ - ٣٠٠] ".
(٣) أظنه من شعر رابعة العدوية العابدة البصرية المشهورة بالتأله والزهد، والمتوفاة سنة ثمانين =

<<  <  ج: ص:  >  >>