للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثم قال: "ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه؟ "، قلت: بلى يا رسول اللَّه.

قال: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ "

قلت: بلى يا نبي اللَّه، فأخذ بلسانه.

قال: "كف عليك هذا"، فقلت: يا نبي اللَّه، وإنا لمؤاخذون مما نتكلم به؟

فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم" (١).

ولنذكر من الحكايات ما يليق بذلك:

فالأول عن ذي النون المصري -رحمة اللَّه عليه- قال: بينا أن أسير في نواحي الشام إذ وقعت في روضة خضراء، وفي وسطها شاب قائم يصلي تحت شجرة تفاح، فتقدمت إليه، وسلمت عليه، فلم يرد علي السلام.

فسلمت عليه ثانيا فأوجز في صلاته، ثم كتب في الأرض بإصبعه:

منع اللسان من الكلام لأنه … كهف البلاء وجالب (٢) الآفات

فإذا نطقت فكن لربك ذاكرًا … لا تنسه واحمده في الحالات

قال ذو النون: فبكيت طويلًا وكتبت بإصبعي في الأرض:

وما من كاتب إلا سيبلى … ويبقى الدهر ما كتبت يداه

فلا تكتب بكفك غير شيء … يسرك في القيامة أن تراه

قال: فصاح الشاب صيحة فارق الدنيا.

فقمت لآخذ في غسله ودفنه، وإذا بقائل يقول: خل عنه فإن اللَّه ﷿ وعده أن لا يتولى أمره إلا الملائكة.

قال ذو النون: (٣) فقمت إلى شجرة فركعت عندها ركعتين، ثم أتيت الموضع


(١) تم تخريجه في أوله.
(٢) جلب الشيء: ساقه من موضع إلى آخر فهو جالب وجلَّاب.
(٣) قال السلمي في كتاب المحن: إن ذا النون أول من تكلم ببلدته في ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية، أنكر عليه عبد اللَّه بن عبد الحكم وكان رئيس مصر، وكان يذهب مذهب مالك، ولذلك هجره علماء مصر، حتى شاع خبره، وأنه أحدث علما لم يتكلم فيه السلف، وهجروه حتى رموه بالزندقة. قال: فدخل عليه أخوه فقال: إن أهل مصر يقولون: أنت زنديق فأنشأ يقول:
ومالي سوى الإطراق والصمت حيلة … ووضعي كفى تحت خدي وتذكاري
[انظر تاريخ الإسلام للذهبي. وفيات (٢٤١ - ٢٥٠)].

<<  <  ج: ص:  >  >>