للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قلت: ثم ماذا؟

قال: الوحشة التي لا أنس فيها، والتفرقة التي لا اجتماع فيها.

قلت: ثم ماذا؟. قال: السلو عما تريد، والصبر على ما لا تحب، وإن أردت فاستعمل هذا وإلا فتأخر واحذر الفتن التي كأنها قطع الليل المظلم.

قلت: فدلني على عمل يقربني من اللَّه.

فقال: يا أخي قد نظرت في جميع العبادات.

فلم أر أنفع من الفرار من الناس وترك مخالطتهم، وقلة الكلام، يا أخي رأيت القلب عشرة أجزاء، فتسعة مع الناس وجزء مع الدنيا، فمن يقوى على الانفراد بتسعة أجزاء من القلب.

ثم غاب عني فلم أره.

الرابعة: عن أبي سلمان المغربي قال: كنت أحمل الحطب من الجبل وأتقوت من ثمنه، وكان طريقي فيه التوقي والتحري.

فرأيت في المنام جماعة من البصريين فيهم الحسن البصري وفرقد السبخي (١) ومالك بن دينار، فسألتهم من علم حالي فقلت: أنتم أئمة المسلمين دلوني على الحالات التي ليس للَّه ﷿ فيها تبعة ولا للمخلوق فيه منة. (٢)

فمكثت آكل ثلاثة أشهر نيًّا ومطبوخًا في دار السبيل، فظهر لي حديث، فقلت: هذه فتنة.

فخرجت من دار السبيل، ومكثت آكل ثلاثة أشهر أخرى، فأوجدني اللَّه تعالى قلبا طيبا حتى قلت إن كان أهل الجنة بهذا القلب فهم واللَّه العظيم في شيء طيب، وما كنت آنس بكلام الخلق.

فخرجت يومًا إلى بعض الصهاريج، فجلست عنده وإذا أنا بفتى قد أقبل من ناحية يريد طرسوس. وقد بقى معي قطعيات من ثمن الحطب السالف فقلت: أنا قد قنعت بالحباري (٣)، أعطى هذه هذا الفقير ليأكل به شيئًا.

فلما دنا مني أدخلت يدي إلى جيبي لأخرجها، وإذا أنا بالفقير قد حرَّك شفتيه،


(١) فرقد بن يعقوب، أبو يعقوب السبخي البصري، الكوفي، صدوق، عابد لكنه لين الحديث كثير الخطأ، أخرج له: الترمذي وابن ماجه، توفي سنة [١٣١]. تهذيب [٨/ ٢٦٢] التقريب [٢/ ١٠٨].
(٢) مَنَّ عليه منًّا: أنعم عليه نعمة طيبة والمِنَّةُ: الإحسان والإنعام، جمعها: منن.
(٣) الحُبارى: طائر طويل العنق رمادي اللون على شكل الإوزة، في منقاره طول.

<<  <  ج: ص:  >  >>