للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال: دخلت على أبي سليمان الداراني فوجدته يبكي، فقلت: ما يُبكيك؟

فقال: يا أبا أحمد ولم لا أبكي وإذا جنَّ الليل ونامت العيون وخلا كل حبيب بحبيبة، وافترشت أهل المحبة أقدامهم، وجوت دموعهم على خُدودهم، وقطرت من محاربهم، أشرف الجليل فنادى جبريل لهم يناديهم ما هذا البكاء؟ هل رأيتم حبيبًا يُعذِّب أحباءه؟ أم كيف يجُمل أن أعذب أقوامًا إذا جنهم الليل تملقونى، فبي حلفت إذا وردوا على القيامة أكشف لهم عن وجهي حتى ينظروا إليَّ وأنظر إليهم.

الرابعة عشرة: عن ذي النون المصري (١): سمعت بعض المجتهدين بساحل الشام يقول: إن للَّه عبادًا عرفوه بيقين معرفته فشمَّروا قصدًا إليه احتملوا فيه المصائب لما يرجون عنده من الرغائب، صحبوا الدنيا بالأشجان وتنعَّموا فيها بطول الأحزان فما نظروا إليها بعين الرغائب وما تزودوا منها إلا كزاد الراكب، خافوا البيات فأسرعوا، ورجوا النجاة فأزمعوا، بذلوا مُهج أنفسهم في رضى سيدهم، نصبوا الآخرة نُصب أعينهم، لبسوا من اللباس أطمارًا بالية، وسكنوا من البلاد قفرًا خالية هربوا من الأوطان، واستبدلوا الوحدة من الأحزان فلو رأيتهم لرأيت قومًا قد ذبحهم الليل بسكاكين السهر وفصل أعضاءهم بخناجر التعب خمِص لطول السُّرَى، شُعثُ لفقد الكَرى، قد وصلوا الكلال بالكلال وتأهبوا النقلة والارتحال وفي مثلهم قال القائل:

أنت بالصدق قد خَبَرتَ رجالا … قد أطالوا البكاء إذا الليل طالا

وملأت القلوب منهم بنوره … من يقين اليقين يا من تعالا

وتوليتهم وكنت دليلًا … وكسوت الجميل منهم جمالا

فإذا الظلام جنَّ عليهم … وصلوا بالكلال منهم كلالا

عفَّرُوا بالتراب منهم وجوهًا … ذاك للَّه خشية وابتهالا

بما جدت للمنام منهم عيون … فاستطار المنام عنهم وزالا

الخامسة عشر: خرج عابد من عباد البصرة يشتري حزمة حطب، فسمع الإقامة


(١) ذو النون المصري الزاهد اسمه ثوبان بن إبراهيم ويقال: أبو الفيضى بن أحمد ويقال ابن إبراهيم أبو الفيض، قال الدارقطنى: روى عن مالك أحاديث فيها نظر، وكان واعظًا وقال ابن يونس: كان عالمًا فصيحًا حكيمًا. أصله من النوبة. [تاريخ الإسلام وفيات (٢٤١ - ٢٥٠)].

<<  <  ج: ص:  >  >>