للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقد ضمنه اللَّه لي فوثقت به وقعدت عن طلبه، وعلمت أن لي فرضًا لا يؤديه غيري فاشتغلت به، وعلمت أن لي أجلا يبادرني فبادرته.

وقال ابن عباس: يا صاحب الذنب لا تأمن سوء عافبتك، وضحكك أعظم من ذنبك، وكذا فرحك به وحزنك عليه إذا فات، وكذا خوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت مقبل عليه.

وروي أن عمر كان يعسّ (١) المدينة، فمشى حتى أعيي، فاتكأ إلى جدار، فإذا امرأة تقول لابنة لها صغيرة: قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء، فقالت: يا أماه أوما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين اليوم؟ قالت: وما كان من عزمته؟ قالت: إنه أمر مناديه فنادى أن لا يشاب اللبن، فقالت: امذقيه، فإنك بمكان لا يراك فيه عمر، ولا مناديه، فقالت: فإن اللَّه -تعالى- يراني، واللَّه ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء، فزوجها عمر أحد أولاده (٢)، ومن ذريتها عمر بن عبد العزيز (٣).

وعن ذي النون قال: حججت سنة فضللت عن الطريق، ولم يكن معي ماء ولا زاد، فأشرفت على الهلكة، فلاحت لي أشجار كثيرة ومحراب، فطرحت نفسي في فيء شجرة، فلما غربت الشمس إذا شاب متغير اللون، نحيل الجسم يؤم ذلك المحراب، فوكز برجله ربوة من الأرض، فظهرت عين تنض ماء عذبًا، فشرب وتوضأ وقام إلى محرابه، فقمت إلى العين فشربت ماء عذبا، وتوضأت وقمت أصلي بصلاته حتى برق عمود الفجر، فلما رأى الصبح وثب قائمًا على قدميه، ونادى بأعلى صوته: ذهب الليل بما فيه، وأقبل النهار بدواميه، ولم أقض من خدمتك وطرأ، خسر من أتعب لغيرك بدنه، وألجأ إلى سواك همه، فلما أراد أن ينصرف ناديته بالذي منجك لذيذ الرغب، وأذهب عنك ملال التعب إلا خفضت لي جناح الرحمة، فإني غريب أريد بيت اللَّه الحرام، وقد ضللت عن الطريق، فقال: يا بطال تحت أرجلنا، حتى رأيت المحجة، وسمعت ضجة، فقال: هؤلاء رفقتك، ثم أنشأ يقول:

من عامل اللَّه بتقواه … وكان في الخلوة يرعاه


(١) عسَّ فلان عسًّا: طاف بالليل يكشف عن أهل الريبة، فهو عاس، جمعها: عسس وعساس.
(٢) زوجها عمر بابنه عاصم بن عمر بن الخطاب، فأنجب بنتًا تزوجها عبد العزيز بن مروان، فأنجبت الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أشج بني أمية.
(٣) عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، أمير المؤمنين أبو حفص القرشي الأموي ، ولد بالمدينة سنة ستين، وأمه هي أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وتوفي سنة إحدى ومائة.

<<  <  ج: ص:  >  >>