للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

سقاه كأسا من صفاء حبه … سلبه عن لذة مرآه

وأبعد الخلق وأقصا منهم … وانفرد العبد بمولاه

وعن العباس بن أحمد قال: قال لي أبو سعيد: كان لي معلم يختلف إليّ يعلمني الخوف، ثم ينصرف، فقال لي يومًا: إني معلمك خوفًا يجمع لك كل شيء، قلت: ما هو؟ قال: مراقبة اللَّه. (١)

وعن عبد اللَّه بن الأحنف قال: خرجت من مصر أريد الرملة لزيارة الروزباري، فرآني عيسى بن يونس المصري، فقال لي: هل أدلك؟ قلت: نعم، قال: عليك بصور فإن بها شيخًا وشابًا قد اجتمعا على حال المراقبة للَّه، فلو نظرت إليهما نظرة لأغنتك باقي عمرك، قال: فدخلت عليهما، وأنا جائع عطشان، وليس عليّ ما يسترني من الشمس، فوجدتهما مستقبلي القبلة، فسلمت عليهما، وكلمتهما، فلم يكلماني، فقلت: أقسمت عليكما باللَّه إلا كلمتماني، فرفع الشيخ رأسه وقال: يا ابن الأحنف، ما أقل شغلك، حتى تفرغ لنا، فأقمت بين يديهما حتى صليا الظهر والعصر فذهب عني الجوع والعطش، فقلت للشاب: عظني بشيء أنتفع به، فقال: تحب المصائب ليس لنا لسان العظة، فاْقمت عندهما ثلاثة أيام بلياليها لم نأكل فيها ولم نشرب، فلما كان في الثالثة قلت: لا بد من سؤالهما في وصية أنتفع باقي عمري بها، فرفع الشاب رأسه وقال: عليك بصحبة من يذكر اللَّه، تنظره يعطك بلسان فعله لا بلسان قوله، ثم التفت فلم أرهما.

وعن الجنيد قال: رأيت إبليس في المنام وهو عريان، فقلت له: أما تستحي من الناس؟!! فقال: أهؤلاء عندك من الناس؟ قلت: نعم، قال: لو كانوا منهم ما تلاعبت بهم تلاعب الأكرة، ولكن الناس قوم في مسجد (الشونيرية) (٢) قد أضنوا جسدي وأحرقوا كبدي، كلما هممت بهم أشاروا إليَّ، فأكاد أحترق، فلما استيقظت، أتيت ذلك المسجد، فإذا أنا بثلاثة رجال رؤوسهم في مرقعاتهم، فلما أحسوا بي أخرج أحدهم رأسه وقال: يا أبا القاسم لا يغرنك حديث الخبيث، وأنشدوا:


(١) قوله : "الإحسان أن تعبد اللَّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" قال النووي: هذا من جوامع الكلم التي أوتيها لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه لم يترك شيئًا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به، فقال : "اعبد اللَّه في جميع أحوالك كعبادتك في حال العيان". النووي في شرح مسلم [١/ ١٤١]، طبعة دار الكتب العلمية.
(٢) كذا بالأصل.

<<  <  ج: ص:  >  >>