إذن فلو أنه منزل أنزله الله لرسوله لما جرؤ أحد على الكلام؛ لأن لله علماً آخر لا نعلمه، فنحن ببشريتنا لنا علم محدود؛ والله له علم بلا نهاية. وكذلك في مسألة الأسرى؛ لم يكن فيها حكم قد نزل من الله. ولذلك استشار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صحابته، وكان أمامه رأي فيه شدة لعمر بن الخطاب ومعه عبد الله بن رواحة، ورأي لين يخالف الرأي السابق وكان لسيدنا أبي بكر الصديق.
وكان قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوجز ما قاله الفريقان؛ فريق اللين بقيادة أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وفريق الشدة بقيادة عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. ثم مال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى رأي الفداء. وجعل فدية الواحد من ألف درهم إلى أربعة آلاف درهم، وكان في الأسر العباس وهو عم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فسمع النبي أنينه من قيده فقال: فكوا عنه قيده. وفسر بعض الناس هذا على أنه ميل من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى عمه، ولكنه كان ردا على جميل فعله العباس في بيعة العقبة؛ حينما حضر وفد من أهل المدينة إلى مكة ليبايعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الإسلام.
وقد حضر العباس هذه البيعة، وكان أول من تكلم فيه رغم أنه كان ما زال على دين قومه. فقال: يا معشر الخزرج وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج. . خزرجها وأوسها. قال العباس: إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه فهو في عز من قومه ومنعة من بلده، أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم. فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك. وإن كنتم ترون أنكم مسلموه، وخاذلوه بعد الخروج به إليكم؛ فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده