إنها ثلاث مشقات صعاب، وليس من المعقول أن تمر هذه المسألة على أبي الأنبياء بيسر وسهولة، بل لابد أنه تحدّث فيها كثيراً بينه وبين نفسه، وهل هي رؤيا أم ماذا؟ . ومن هنا سُمي اليوم الذي قبل يوم عرفة بيوم التروية. وعندما تأكد سيدنا إبراهيم بأن رؤيا الأنبياء حق عرف أنه لابد أن ينفذ ما رأى. والمكان الذي عرف فيه حقيقة الرؤيا سُمي عرفة. أو أنه حين جاءت له الرؤيا بذبح ابنه فالشيطان لم يدع مثل هذه الفرصة تمر، وكان لابد أن يدخل ليوسوس لإبراهيم. أليس هو القائل:{لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم}[الأعراف: ١٦]
فعندما تمثل الشيطان لإبراهيم رجمه بالحصى سبعا في المرة الأولى، ثم عاوده مرة أخرى فرجمه سبعاً، وجاءه في الثالثة فرجمه سبعاً، بعدها لم يأت له ثانية، فجرى إبراهيم مخافة أن يلاحقه، ولذلك سُمى المكان بالمزدلفة، والمزدلف هو المسرع، ويسمى «ذا المجاز» أي أنه اجتاز المزدلفة، ويكون قد عرف المسألة عند عرفة.
أو أن جبريل كان يعرفه المناسك في هذا المكان، فيقول له: عرفتَ؟ فيرد إبراهيم:«عرفتُ» . أو أن الإنسان يعرف فيها ربه في آخر ما شرع له من أركان فكل منا عرف الأركان: هذا عرف، وذاك عرف، وثالث، ورابع، وهكذا فيكون كلنا: عرفات، ويصبح المكان عبودية لله. اشترك فيها جميع الحجاج.
{فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} . والمشعر الحرام في مزدلفة:{فاذكروا الله} معناها أن الله يَسّر لكم هذه الرحلة الشاقة، وجاء بكم آمّين وقاصدين بيت الله الحرام، ثم تعودون مغفورا لكم، وهي مسألة تستحق أن تذكروا الله بالشكر والعرفان.
{واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} ؛ لأن هدايته لكم وتعليمكم أقصر طريقة يوصل إلى الخير هو تحية من الله لخلقه، والتحية يجب أن يُرَدّ عليها، فكما هداكم اذكروه. {وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين} ؛ لأنهم طالما حجوا كثيراً، في الجاهلية، فأنتم كنتم تحجون بضلال، والآن تحجون بهدى. {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} .