وحين تُدقَّق في هذا القول النبويّ الكريم تجد الترقِّي كاملاً؛ فقوله:«ما لا أُذن سمعتْ» جاء لأنه يعلم أن مُدْركَاتِ العيْنِ محدودة بالنسبة لِمَا تعلمُ الأذن؛ لأن الأذن تسمع ما لا تدركه العين؛ فهي تسمع ما يراه غيرُك بالإضافة إلى ما تراه أنت.
فالأذن تسمع القريب وتسمع البعيد وتنقل صوته وتستحضره ثم تميزه، بخلاف العين فهي محدودة المسافة حسب قوة الإبصار، ومع كل فنعيم الجنة فوق كل هذا الفوق.
ثم يأتي الترقِّي الأكبر في قوله:«ولا خطر على قلب بشر» . والخواطر أوسَعُ من قدرة الأذن وقُدْرة العين؛ فالخواطر تتخيَّل أشياء قد تكون غيرَ موجودة.
وهكذا نرى عَجْز اللغة عن أنْ تُوجد بها ألفاظ تعبر عن معنى ما هو موجود بالجنة، ولا أحدَ فينا يعلم ما هي الأشياء الموجودة بالجنة، وما دام أحد منا لم يَرَ الجنة؛ وما دام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:«فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .
فلابُدَّ أنْ نعلم قَدْر عَجْز اللغة عن التعبير عَمَّا في الجنة، فإذا أراد الله أنْ يُعبِّر عَمَّا فيها؛ فهو يُوضِّح لنا بالمثَلِ؛ لا بالوصف، لأنه يعلم أن لغتنا تضع الألفاظ لِمَا هو موجود في حياتنا؛ ولا توجد ألفاظ في لغتنا تُؤدِّي معاني ما في الجنة.
ولذلك قال لنا الحق سبحانه:{مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ... }[محمد: ١٥]