للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بينما أهلها منها في رخاء وسرور أبدلهم منها ببلاء وغرور.

أحوال مختلفة وثارات متفرقة، والعيش فيها مذموم والرخاء فيها لا يدوم.

وإنما أهلها فيها أعراض مستهدفة ترميهم بأسهامها وتعضهم بجماحها.

واعلموا عباد اللَّه أنكم وما أنتم فيه من زهرة الدنيا على سبيل من مضى ممن كان أطول منكم أعمارًا وأشد منكم بطشًا، وأعمر وأبعد أثارًا.

فأصبحت أموالهم هامدة من بعد طول تقلبها، وأجسادهم بالية وديارهم خالية وأثارهم عافية، واستبدلوا بالقصور المشيدة والنمارق المتمهدة، الصخور والأحجار في القبور التي بنى بالخراب وشيّد بالتراب بناؤها.

فميلها مقترب وساكنها مغترب بين أهل عمارة موحشين وأهل متشاغلين لا يستأنسون بالعمران ولا يتواصلون تواصل الجيران والإخوان على ما منهم من قرب الخوار ودنو الدار.

وكيف يكون تواصل وقد طحنهم بكلكله (١) البلى، وأصلهم الجنادل والثرى، فأصبحوا بعد الحياة أمواتًا وبعد غضارة النفس رفاتًا.

فجَعَ بهم الأحباب، وسكنوا التراب وظعنوا وليس لهم إياب.

هيهات هيهات ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾ (٢) الآية.

وكأنكم عن قليل صرتم إلى ما صاروا إليه من البلى والوحدة في دار النوى وارتهنتم الأمور وبعثرتم القبور، وحُصل ما في الصدور (٣)، ووقفتم بين يدي الجليل، فطارت القلوب لانشقاقها من مآلف الذنوب، وهتكت عنهم الحجب والأستار وظهرت منهم العيوب والأسرار هنالك تُجزى كل نفس بما كسبت، فإن اللَّه تعالى يقول: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم: ٣١] (٤).


(١) الكلكل: الصدر، أو هو ما بين الترقوتين.
(٢) سورة المؤمنون (١٠٠).
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أي لا بد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم، وقال محمد بن كعب القرظي ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ قال: يقول الجبار ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾ [المؤمنون: ١٠٠] تفسير ابن كثير (٣/ ٢٦٣).
(٣) قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١)﴾ [العاديات: ٩ - ١١].
(٤) سورة النجم (٣١). أي يجازي كلا بعمله إن خيرا فخير، وإن شرا فبشر ثم فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، أي لا يتعاطون المحرمات الكبائر، وإن وقع منهم بعض الصغائر، فإنه يغفر لهم ويستر عليهم تفسير ابن كثير (٤/ ٢٥٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>