للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السادسة: روى أن مَلِكًا من ملوك كندة كان شديد المصاحبة للهو واللَّذات، كثير العطوف إلى اللعب والمحرمات (١)، فركب يومًا للاصطياد أو غيره.

فانقطع عن أصحابه، فإذا هو برجل جالس قد جمع عظامًا من عظام الموتى، وهي بين يديه يُقلبها.

فقال: ما قصتك أيها الرجل؟ وما بلغ بك؟ وما أرى من سوء الحال؟ ويبس الجسم، وتغير اللون والانفراد في هذه الفلاة؟

فقال: أما ما ذكرت من ذلك فلأني على جناح سفر بعيد ولي ملكان يزعجان يجدَّان بي إلى منزل ضنيك المحل، مظلم القصر، كريه المقرّ (٢).

ثم يُسلماني إلى مصاحبة البلى، ومجاورة الهلكى تحت أطباق الثرى.

فلو نزلت بذلك المنزل مع ضيقه ووحشته، (وارتقى) (٣) أجناس الأرض من لحمى، حتى أعود رفاتًا، وتصير أعظمي رميمًا، لكان للبلاء انقضاء وللشقاء نهاية، ولكني أدفع بعد ذلك إلى صيحة الحشر، وأرد أهوال موقف الجرائم، لا أدري إلى أي الدارين يؤمر بي، وأي حال يلتذ به من إلى هذا الأمر مصيره.

فلما سمع الملك كلامه ألقى نفسه عن فرسه وجلس بين يديه.

وقال: أيها الرجل لقد كدَّر عليَّ مقالك صفو عيشي وملك قلبي، فأعد عليَّ بعض قولك، واشرح لي دينك.

فقال له: أما ترى هذه التي بين يدي؟

قال: بلى. قال: هذه عظام ملوك غرتهم الدنيا بزخرفها، واستحوذت على قلوبهم بغرورها، فألهتهم عن التأهب لهذه المصارع حتى أجابتهم الآجال وجدلتهم وسلبتهم بها النعمة. وستنشر هذه العظام، فتعود أجسادًا.


(١) قال تعالى: ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [الأنعام: ٧٠]. وقال تعالى ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ [الحديد: ٢٠].
(٢) روى البخاري في صحيحه (١٣٧٩) كتاب الجنائز، ٨٩ - باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي عن ابن عمر أن رسول اللَّه قال: "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك اللَّه إلى القيامة" وعن أبي سعيد فيما يليه رقم (١٣٨٠) باب كلام الميت على الجنائزة مرفوعا: "إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين يذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق".
(٣) كذا بالأصل.

<<  <  ج: ص:  >  >>