للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقال: حديثهم أعجب مما رأيت.

فقلت: حدثني.

قال: كانوا ثلاثة أخوة، أمير وتاجر وزاهد، فحضرت الزاهد الوفاة، فاجتمع إليه أخواه وعرضا عليه ما أحب من مالهما ليتصدق به، فأبى أن يقبل، وقال: لا حاجة لي في مالكما، ولكني أعهد إليكما فلا تخلفا عهدي.

قالا: أعِهد، قال: إذا مِتُّ فغسلاني وكفناني وصليا عليَّ، وادفناني على نشز من الأرض واكتبا على قبري هذين البيتين - يعني الأولين:

وكيف يُلذّ. . . . إلى آخرهما.

فإذا أنتما فعلتما ذلك فأتياني في كل يوم مرة لعلكما تتيقظان، ففعلا ذلك.

وكان أخوه الملك يركب في جنده حتى يقف على قبره، ويقرأ عليه، ويبكي.

فلما كان اليوم الثالث جاء كما كان يجئ مع الجند، فنزل وبكى كما كان يبكي.

فلما أراد أن ينصرف سمع هدُّة من داخل القبر كاد ينصدع لها قلبه.

فانصرف فزعًا مذعورًا.

فلما كان الليل رأى أخاه في منامه وقال له: يا أخي ما الذي سمعت في قبرك.

قال: حسّ المقمعة (١)، قيل لي: رأيت مظلومًا، فلم تنصره.

فأصبح مهمومًا، فدعا أخاه وخاصته.

وقال: ما أرى أخي أراد بما أوصانا أن نكتب على قبره غيري، وإني أشهدكم لا أُقيم بين أظهركم أبدًا، فترك الإمارة، ولزم العبادة.

وكان يأوي إلى الجبال والبراري حتى حضرته الوفاة مع بعض الرعاة.

فلما بلغ ذلك أخاه أتاه وقال له: يا أخي ألا توصني؟

قال: فبأي شيء أُوصي ليس لي مال أوصي به ولكنى أعهد إليك عهدًا إذا أنا مت فادفنني جنب أخي واكتب على قبري هذين البيتين:

وكيف يُلذّ العيش. . . . إلى آخرهما

كما أسلفناهما.

ثم زرني ثلاثة أيام بعد موتي وادع لي، لعل اللَّه يرحمني، ثم مات.

ففعل ما أمره.

فلما كان اليوم الثالث أتاه فبكى عنده، ودعا له فلما أراد أن ينصرف سمع


(١) المقمعة: خشبة أو حديدة معوجة الرأس يضرب بها، جمعها: مقامع.

<<  <  ج: ص:  >  >>