للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فاستعد لسفرك وتأهب لرحيلك، وحوّل جهازك من المنزل الذي أنت عنه إلى المنزل الذي أنت فيه مُقيم، ولا تغتر بما اغتر به البطَّالون قبلك من طول آمالهم فقصَّروا في أمر معادهم فندموا عند الموت أشد الندامة، وأسفوا على تضييع أعمارهم أشد الأسف.

فلا الندامة عند الموت تنفعهم ولا الأسف الذي على التقصير أنقذهم من سوء ما نالهم، وشدة ما هالهم.

ثم قال: يا بُني بادر، ثم بادر.

فأصبح الفتى وقال: ما أرى هذا الأمر إلَّا قد أظلني، فأدى ولم يزل يُعطي ويُقسم ويتصدق إلى أن كان اليوم الثالث من صبيحة الرؤيا فدعا أهله وولده فودَّعهم وسلَّم عليهم.

ثم استقبل القبلة وتشهد شهادة الحق، ثم مات، فكان الناس يزورون قبورهم ويتوسلون (١) إلى اللَّه تعالى بهم في قضاء حوائجهم فتُقضى.

الثالثة عشر: عن عبد اللَّه بن مهران قال:

حج الرشيد فوافى الكوفة، فأقام بها أيامًا ثم ضرب بالرحيل، فخرج الناس وخرج بهلول المجنون (٢) فيمن خرج فجلس بالكناسة والصبيان يؤذونه، ويولعون به.

إذ أقبلت هوادج هارون، فكف الصبيان عن الولوع به.

فلما جاء هارون نادى بأعلى صوته يا أمير المؤمنين:

فكشف هارون السِّجاف (٣) بيده وقال: لبيك يا بهلول.


(١) للتوسل ثلاثة أوجه: أولها: التوسل بدعاء الصالحين وذلك مما ورد عن النبي وفي طلبه من عمر بن الخطاب الدعاء لما أراد العمرة، وكذلك توسل عمر بدعاء العباس عم النبي في الاستسقاء.
والثاني: التوسل بصالح الأعمال وذلك في حديث أصحاب الغار الثلاثة في الصحيحين.
والثالث: التوصل بأسماء اللَّه الحسنى وقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: ١٨٠]. وهذا مما أجمع عليه العلماء، وأما غير هذا ففيه خلاف.
(٢) بهلول المجنون اجتمع به هارون الرشيد فقال له الرشيد: كنت أشتهي رؤيتك من زمان، فقال لكني أنا لم أشتق إليك قط، فقال له: عظني، فقال: بم أعظك، هذه قصورهم وهذه قبورهم، ثم قال: كيف بك يا أمير المؤمنين إذا أقامك الحق تعالى بين يديه فسألك عن النقير والفتيل والقطمير وأنت عطشان جيعان عريان، وأهل الموقف ينظرون إليك ويضحكون، فخنقته العبرة، وكان بهلول مجاب الدعوة وأمر له الرشيد بصلة فردها عليه وقال: ردها على من أخذتها منه قبل أن يطالبك بها أصحابها في الآخرة فلا تجد لهم شيئًا ترضيهم به، فبكى الرشيد وتأتي ترجمته.
(٣) السِّجاف: السِّتر، وما يركب على حواشي الثوب، وجمعها أسجاف، وسُجوف.

<<  <  ج: ص:  >  >>