للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حين يخطر ببالي، أما بلغك أن اللَّه -تعالى- لما خلق الدنيا قال لها: يا دنيا من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه، فلما رأى ذلك تاب، وكان منه ما كان، وأنشدوا:

خُدِمت لما أن صرت في خدمك … ودار عني السرور من نعمك

وكانت الحادثات تطرقني … فاحتشمتني إذ صرت من حشمك

الحكاية العاشرة: عن مالك بن دينار (١) أنه سُئل عن سبب توبته، قال: كنت شرطيًا، وكنت منهمكًا على شرب الخمر، ثم إني شريت جارية نفيسة وقعت مني أحسن موقع، فولدت لي بنتًا فشغفت بها، فلما دبت ازداد حبها في قلبي، فكنت إذا وضعت المسكر، جاءت إليّ وجاذبتني إياه وهرقته على ثوبي، فلما تم لها سنتان ماتت، فأكمدني حزنها، فلما كانت ليلة النصف من شعبان، وكانت ليلة جمعة، بت ثملا من الخمر ولم أُصل العشاء، فرأيت كأن أهل القبور خرجوا وحُشر الخلائق وأنا معهم. فسمعت حسًا من ورائي، فالتفت فإذا أنا بتنين أعظم ما يكون، أسود أزرق، قد فتح فاه مُسرعًا نحوي، فمررت بين يديه فزعا مرعوبا هاربًا منه، فمررت في طريقي بشيخ نقي الثياب طيب الرائحة، فسلمت عليه، فردّ علي السلام، فقلت له: أجرني وأغثني، فقال: أنا ضعيف، وهذا أقوى مني ولا أقدر عليه، ولكن مرَّ وأسرع، فلعل اللَّه يسبب لك ما ينجيك منه، فوليت هاربًا (٢)، فصعدت على شرف من شرف القيامة، فأشرفت على طباق النيران، فنظرت إلى هولها، فكدت أهوي فيها من فزع التنين، وهو في طلبي، فصاح بي صائح: ارجع فلست من أهلها، فاطمأننت إلى قوله، فأتيت الشيخ فسألته، فلم يفعل وبكى وقال: أنا ضعيف، ولكن سر إلى هذا الجبل، فإن فيه ودائع المسلمين، وإن كان لك فيه وديعة فتنصرك، فنظرت إلى جبل مستدير، فيه كوى مخرقة وستور معلقة، على كل خوخة وكوة مصراعان من الذهب الأحمر مفصلة بالياقوت، مكللات بالدرّ، وعلى كل مصراع ستر من الحرير، فلما نظرت إلى الجبل هربت إليه، وهو ورائي، فلما قرِبت منه صاح بعض الملائكة: ارفعوا


(١) مالك بن دينار أبو يحيى أبو هاشم السلمي الناجي البصري الزاهد القرشي، صدوق عابد، أخرج له البخاري تعليقًا، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وتوفي سنة [١٢٣، ١٢٤، ١٢٥، ١٢٦]. ترجمته: تهذيب التهذيب [١٠/ ١٤]، تقريب التهذيب [٢/ ٢٢٤]، التاريخ الكبير [٧/ ٣٠٩]، الجرح والتعديل [٨/ ٩١٦]، ميزان الاعتدال [٣/ ٤٢٦].
(٢) قال سلم الخواص: قال مالك بن دينار: خرج أهل الدنيا من الدنيا ولم يذوقوا أطيب شيء فيها. قيل: وما هو؟ قال: معرفة اللَّه -تعالى- وقال مالك: منذ عرفت الناس لم أفرج بمدحهم، ولم أكره مذمتهم لأن حامدهم مفرط وذامهم مفرط. تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات [١٢١ - ١٣٠].

<<  <  ج: ص:  >  >>