للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الستور وافتحوا المصاريع (١) وأشرفوا، فلعل لهذا البائس فيكم وديعة تجيره من عدوه.

فإذا الستور (٢) قد رفعت، والمصاريع قد فتحت، فأشرفت على أطفال بوجوه كالأقمار، وقرب التنين مني فتحيرت في أمري، فصاح بعض الأطفال: ويحكم أشرفوا كلكم فقد قرب عدوه منه، فأشرفوا فوجًا بعد فوج، وإذا بابنتي التي ماتت أشرفت معهم (٣) فلما رأتني بكت وقالت: أبي واللَّه، ثم وثبت في كفة من نور كرمية السهم حتى مثلت بين يدي، فمدت يدها الشمال إلى يدي اليمين فتعلقت بها، ومدت اليمين إلى التنين فولى هاربًا.

ثم أجلستني وقعدت في حجري، وضربت ببدها اليمنى إلى لحيتي وقالت: يا أبت ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ (٤) فبكيت وقلت: يا بنية، وأنتم تعرفون القرآن؟ فقالت: يا أبت نحن أعرف به منكم، قلت: فأخبريني عن التنين الذي أراد هلاكي؟ قالت: ذاك كملك السوء، قويته فأراد أن يغرقك في نار جهنم، قلت: فأخبريني عن الشيخ الذي مررت به في طريقي؟ قالت: ذاك عملك الصالح، أضعفته حتى لم يكن له طاقة بعملك السوء، قلت: وما تصنعون بهذا الجبل؟ قالت: نحن أطفال المسلمين، قد أُسكنَّا فيه إلى أن تقوم الساعة ننتظركم، تقدمون علينا فنشفع لكم، فانتبهت فزعًا، فلما أصبحت فارقت ما كنت عليه، وتبت إلى اللَّه وهذا سبيل توبتي.


(١) المصارع: مصراع الباب أحد جزأيه، وهما مصراعان: أحدهما: إلى اليمين. والآخر: إلى اليسار، ومن بيت الشعر نصفه، وجمعها: مصاريع.
(٢) الستار: ما يستر به وما أسدل على نوافذ البيت وأبوابه حجبًا للنظر، جمعها: سُتر، والستار جمعها: أستار، وستور.
(٣) روى الأصمعي عن أبيه قال: مر المهلب بن أبي صفرة على مالك بن دينار وهو يتبختر في مشيته، فقال مالك: أما علمت أن هذه المشية تكره إلا بين الصفين؟ فقال له المهلب: أما تعرفني؟ قال: أعرفك؛ أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة، وأنت بينهما تحمل العذرة، فقال المهلب: الآن عرفتني حق المعرفة. تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات [١٢١ - ١٣٠].
(٤) سورة الحديد [١٦].
يقول تعالى: أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر اللَّه أي تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن، فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه، قال ابن المبارك بسنده، عن ابن عباس أنه قال: إن اللَّه استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن فقال: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الحديد: ١٦] وروى مسلم في صحيحه [٢٤ - (٣٠٢٧)] كتاب التفسير، [١] باب قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الحديد: ١٦] عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا اللَّه بهذه الآية ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الحديد: ١٦] إلا أربع سنين.

<<  <  ج: ص:  >  >>