الحكاية الحادية عشرة: عن أحمد بن عبد اللَّه المقدسي قال: صحبت إبراهيم بن أدهم فسألته عن بداية أمره، وما كان سبب بدأة أمره من المُلك الفاني إلى الباقي؟ قال: يا أخي، كنت جالسًا يومًا في أعلى قصر في ملكي، والخواص قيام على رأسي، فأشرفت من الطاق فوجدت رجلا من الفقراء جالسًا بفناء القصر، بيده رغيف يابس قد بله بالماء، وأكله بملح جريش، وأنا أنظر إليه إلى أن فرغ من أكله، ثم شرب من الماء وحمد اللَّه وأثنى عليه، ونام في فناء القصر، فألهمني اللَّه الفكر فيه، فقلت لبعض مماليكي: إذا قام ذلك الفقير فأتني به، فلما استيقظ من نومه دُعي فقال: بسم اللَّه ولا حول ولا قوة إلا باللَّه (١) وجاء، فلما نظر إليَّ سلم، فرددت عليه السلام وأمرته بالجلوس فجلس، فلما اطمأن قلت له: يا فقير، أكلت الرغيف وأنت جائع فشبعت؟ فقال: نعم، قلت: وشربت الماء سجاوة فرويت؟ قال: نعم، قلت: ثم نمت طيبًا بلا هم ولا غم فاسترحت؟ قال: نعم، قلت في نفسي وأنا أعتبها: يا نفس ما أصنع بالدنيا، والنفس تقنع بما سمعت ورأت، فعقدت التوبة في تلك الساعة مع اللَّه -تعالى- فلما انصرف النهار وأقبل الليل، لبست مسحًا من شعر وقلنسوة من صوف، وخرجت سائحًا حافيًا إليه، فلحقني رجل حسن الوجه والثياب طيب الرائحة، فتقدمت إليه وصافحته وسلمت عليه، فردّ عليّ السلام وقال: يا إبراهيم أين تريد؟ فقلت: هربت منه إليه، فقال لي: أنت جائع؟ قلت: نعم، فقام الشيخ وصلى ركعتين خفيفتين وقال لي: قم وصل كما صليت، ففعلت ذلك، فالتفت فإذا عن يمينه طعام موضوع وماء بارد، فقال لي: تقدم وكل من فضل اللَّه واشكر ربك على ذلك، فأكلت منه كفايتي، وهو باق على حاله، وشربت وحمدت اللَّه، فقال: يا إبراهيم اعقل وافهم ولا تستعجل في أمورك؛ فإن العجلة من الشيطان، واعلم أن اللَّه إذا أراد بعبده خيرًا صطفاه لنفسه وجعل في قلبه سراجًا من نور
(١) روى البخاري في صحيحه [٦٣٨٤] عن أبي موسى الأشعري ﵁ أن النبي ﷺ قال: "قل لا حول ولا قوة إلا باللَّه فإنها كنز من كنوز الجنة" قال النووي: قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى اللَّه -تعالى- واعتراف بالإذعان له وأنه لا صانع غيره ولا راد لأمره، وأن العبد لا يملك شيئًا من الأمر، ومعنى الكنز هنا أنه ثواب مدخر في الجنة، وهو ثواب نفيس كما أن الكنز أنفس أموالكم، قال أهل اللغة: الحول الحركة والحيلة، أي لا حركة ولا استطاعة ولا جلة إلا بمشيئة اللَّه -تعالى- وقيل: معناه لا حول في دفع شر ولا قوة في تحصيل خير إلا باللَّه. وقيل: لا حول عن معصية اللَّه إلا بعصمته ولا قوة على طاعته إلا بمعونة، وحكي هذا عن ابن مسعود ﵄ وكله متقارب. قال أهل اللغة: ويعبر عن هذه الكلمة بالحوقلة، وبالأول جزم الأزهري والجمهور، وبالثاني جزم الجوهري، ويقال أيضًا: لا حيل ولا قوة في لغة غريبة حكاها الجوهري وغيره. النووي في شرح مسلم [١٧/ ٢٢] طبعة دار الكتب العلمية.