للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

داره، وجلس مع الشاب على الحصير ينوح على شبابه، ويندب على نفسه، والشاب يعظه إلى أن أصبح، وقد عاهد اللَّه أن لا يعود إلى معصيته أبدًا، فلما أصبح أظهر توبته، ولزم المسجد والعبادة، وأمر بالجواهر والملابس فبيعت، وتصدق بها، ورد الضياع المقتلعة، وباع ضياعه وخدمه، وأعتق من اختار العتق، وتصدق به أجمع، ولبس الصوف الخشن، وأكل الشعير، وكان يحيي الليل ويصوم النهار، حتى كان يزوره الصالحون والأخيار ويقولون له: ارفق بنفسك، فإن المولى كريم يشكر اليسير، ويثيب على الكثير، فيقول: يا قوم أنا أعرف بنفسي منكم؛ إن جرمي عظيم، عصيت (١) ربي ليلا ونهارًا، ويكثر البكاء، ثم خرج حاجًا حافيًا راجلا عليه خيشته وركوة وجراب، فقدم مكة فأقام بها إلى أن مات، وكان يدخل الحجر (٢) ليلا وينوح على نفسه ويقول: سيدي كم أُراقبك في خلوتي، سيدي ذهبت شهوتي وبقيت تبعاتي، فالويل لي يوم ألقاك والويل لي، ثم الويل من صحيفتي إذا نشرت مملوءة من فضائحي وخطاياي، بل كل الويل من سبِّك إياي، وتوبيخك لي، وإحسانك إليّ، ومقابلة نعمتك بالمعاصي، وأنت مطلع على فعالي.

سيدي إلى من أهرب إلا إليك؟ إلى من ألتجئ، وعلى من أعتمد إلا عليك؟ إني لا (استاهل) (٣) أن أسألك الجنة، بل أسألك بجودك وكرمك وبفضلك أن تغفر لي، فإنك أهل التقوى وأهل المغفرة (٤).

شعر:

عصيتك جاهلا يا ذا المعالي … ففرج ما ترى من سوء حالي


(١) مذهب أهل السنة وما عليه أهل الحق من السلف والخلف أن من مات موحدًا دخل الجنة قطعًا، وأما من كانت له معصية كبيرة ومات من غير توبة فهو في مشيئة اللَّه -تعالى- فإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة أو لا، وإن شاء عذبه القدر الذي يريده ثم يدخله الجنة فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد، ولو عمل من المعاصي ما عمل، كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر، ولو عمل من أعمال البر ما عمل. النووي في شرح مسلم [١/ ١٩٢، ١٩٣] طبعة دار الكتب العلمية.
(٢) الحجر: هو جانب الكعبة من جهة الشمال.
(٣) كذا بالأصل.
(٤) قوله تعالى: ﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾ [المدثر: ٥٦] أي هو أهل أن يخاف منه، وهو أهل أن يغفر ذنب من تاب إليه وأناب، قاله قتادة. وروى أحمد في مسنده [٣/ ١٤٢] عن أنس بن مالك قال: قرأ رسول اللَّه هذه الآية ﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾ [المدثر: ٥٦] وقال: "قال ربكم أنا أهل أن أتقي فلا يجعل معي إله، فمن اتقى أن يجعل معي إلهًا كان أهلا أن أغفر له".

<<  <  ج: ص:  >  >>