للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقلت له: أما الآن يا بني، فقد صلحت لخدمة الملوك، اذهب فقد وهبتك للَّه ﷿ وأنت وديعتي إياه، فودعته وودعها، وشيعته بالدعاء، ثم أنشأت تقول:

جعل الرضا لسباقه ميدانًا … فجرى وأطلق من يديه عنانا (١)

فتقدم السباق في غسق الدجى … يطوي القفار (٢) ويطلب الأوطانا

هجر الخلائق والعلائق في الرضا … محبوبه وتجنب الإخوانا

شرب الظمأ حتى تعطش قلبه … فغدا وراح من الظمأ ريّانا

الثانية بعد العشرين: عن ذي النون (٣) المصري -رحمه اللَّه تعالى- قال: كنت في البادية قاصدًا مكة، فغلبني العطش، فملت إلى حي من بني مخزوم، فرأيت جارية صغيرة حسناء، وهي تترنم بالأشعار، فعجبت منها لصدور ذلك عنها، وهي من جملة الصغار، فقلت لها: يا هذه الجارية، أما فيك حياء؟ فقالت: صه يا ذا النون إني شربت البارحة بكأس الحب مسرورة، فأصبحت اليوم من حب المولى مخمورة، فقلت لها: يا جارية، أراك حكيمة فأوصيني بوصية، فقالت: يا ذا النون عليك بالسكوت والرضا في الدنيا بالقوت حتى تزور في الجنة الحيَّ الذي لا يموت. فقلت لها: هل عندك ماء؟ فقالت: أنا أدلك على الماء، فظننت أنها تدلني على بئر أو عين، فقالت: إن الناس يسقون يوم القيامة على أربع مراتب: فرقة تسقيهم الملائكة، قال اللَّه ﷿: ﴿بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦)(٤).

وفرقة يسقيهم رضوان خازن الجنة، قال اللَّه ﷿: ﴿وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧)(٥).

وفرقة يسقيهم المولى ﷿ وهم الخواص من عباده، قال تعالى: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ (٦) فلا تعطى بترك الدنيا غير مولاك، حتى يسقيك مولاك في عقباك،


(١) العنان: سير اللجام الذي تمسك به الدابة، جمعها: أعنة.
(٢) القفر: الخلاء من الأرض لا ماء فيه ولا ناس ولا كلأ، ويقال: دار قفر، وجمعها: قِفار.
(٣) من أقوال ذي النون: الاستغفار اسم جامع لمعان كثيرة، أولهن: الندم على ما مضى، والثاني: العزم على ترك الرجوع، والثالث: أداء كل فرض ضيعته فيما بينك وبين اللَّه، والرابع: رد المظالم في الأموال والأعراض والمصالحة عليها، والخامس: إذابة كل لحم ودم نبت على الحرام، والسادس: إذاقة البدن ألم الطاعة كما وجدت حلاوة المعصية.
(٤) سورة الصافات [٤٦].
(٥) سورة المطففين [٢٧].
(٦) سورة الإنسان [٢١].
أي طهر بواطنهم من الحسد والحقد والغل والأذى وسائر الأخلاق الرديئة، كما روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: "إذا انتهى أهل الجنة إلى باب الجنة وجدوا هنالك عينين فكأنما ألهموا ذلك، فشربوا من إحداهما، فأذهب اللَّه ما في بطونهم من أذى، ثم اغتسلوا من الأخرى، فجرت عليهم نضرة النعيم". تفسير ابن كثير [٤/ ٤٥٦].

<<  <  ج: ص:  >  >>