للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نزع الثوب الذي كان عليه فرمى به، وبقي في سراويله، فأعطي ثوبين اتزر بواحد واتشح بالآخر، وهام على وجهه، فكان بكاء الناس عليه أكثر من بكائهم على الميت.

الحكاية الثلاثون: عن أبي هاشم -رحمة اللَّه عليه- قال: أردت البصرة، فجئت إلى سفينة أكتريها (١) وفيها رجل ومعه جارية، فقال الرجل: ليس هاهنا موضع، فسألته الجارية أن يحملني ففعل، فلما سرنا دعا الرجل بالغداء فوضع، فقال: ادع ذلك المسكين ليتغذى معنا، فجئت على أني مسكين، فلما تغدينا قال: يا جارية، هاتي شرابك، فشرب وأمرها أن تسقيني فقلت: يرحمك اللَّه، إن للضيف حقًا، فتركني، فلما دب فيه النبيذ قال: يا جارية، هاتي عودك، وهاتي ما عندك، فأخذت العود وغنت وهي تقول:

وكنا كغصني بانة (٢) ليس واحد … تزول على الحالات عن رأي واحد

تبدل بي خلًّا فخاللت غيره … وخليته لما رأيت تباعدي

فلو أن كفي لم تردني أبنتها … فلم تصحبنها بعد ذلك ساعدي

ألا قبح الرحمن كل ممازق … بكون أخا في الخفض لا في الشدائد

فالتفت الرجل إلى وقال: أتحسن مثل هذا؟ فقلت: أحسن خيرًا منه، فقرأت ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (٣)(٣) فجعل الشيخ يبكي، فلما انتهيت إلى قوله تعالى ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠)(٤) قال: يا جارية: اذهبي فأنت حرة لوجه اللَّه، وألقى ما معه من الشراب في الماء، ثم عاد إلى فاعتنقني وقال: يا أخي، أترى أن اللَّه يقبل توبتي؟ (٥) فقلت له: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ


= منه في هذه الحياة الدنيا، أن يوجد أفراد بين الناس عاجزون عن سلوك سبيل الحياة وتحصيل الضروري من القوت، فمن المفروض إنقاذ هؤلاء وإعطاؤهم ما يدفع عنهم غائلة الجوع والعري. الفقه على المذاهب الأربعة [٣/ ٢٦٧].
(١) اكترى الدار: استأجرها، وأكرى الدار أو الدابة آجرها، والكراء: أجر المستأجر.
(٢) البان: ضرب من الشجر سبط القوام لين ورقه كورق الصفصاف، واحدته: بانة، وتشبه به الحسان في الطول واللين.
(٣) سورة التكوير [١ - ٣].
(٤) سورة التكوير [١٠].
(٥) قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾ [الشورى: ٢٥]، وقال تعالى: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ﴾ [المائدة: ٣٩] الآية، وقال تعالى: ﴿أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤)﴾ [الأنعام: ٥٤].

<<  <  ج: ص:  >  >>