للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سمتها وحالها، فبينما أنا بعد مدة مارًا بالسوق، إذ رأيت الجارية وقد قبض على يدها إنسان وهو ينادي عليها: من يشتري هذه الجارية بعيبها، فقلت لها: ألست التي كنت تسأليني عن أمور وشرائع الإسلام؟ فأطرقت، فبينما أنا أتكلم معها إذا بسيدها قد أقبل، فتقدمت إليه وقلت له: صف صفة جاريتك، واذكر لي ما الذي تكره منها، فقال: أخبر الشيخ أن البعيد مجوسي (١) يعبد النار والنور، وكنت قد استحسنت هذه الجارية لما رأيت من جمالها وعقلها، فاشتريتها بثمن جزيل، وكنت أراها كثيرة العبادة والتعظيم لمعبودنا، محبة طائعة لآلهتنا، وقد كانت ليلة من الليالي، فمر بنا رجل متن أهل ملتكم، وقرأ شيئًا من كتابكم، فما هو إلا أن سمعت ما قرأه، صاحت صيحة فدهشنا، وأنشدت:

طرق السمع يا أهيل المحلى … خير منكم فزاد اشتياقي

حكم النقل قد روته ثقات … مسند بالدواة والاتفاق

عندما شمت بارقًا من حماكم … حن قلبي إلى لذيذ التلاقي

وكتمت الوشاة ما بي من الوجد … ومن لوعتي واحتراقي

أنا أفنى بكم وتبلى عظامي … ورسل الغرام في القلب باقي

قال: فدهشنا وهي باهتة نسألها، فلا ترد جوابًا، إلا أنها تركت عبادة آلهتنا، وأبت أن تأكل طعامنا، وإذا جن عليها الليل صلَّت إلى قبلتكم، وكم نهيناها فلم تنته، وقد ذهبت نضارتها وغيرت حالتها، ولم يحصل لنا بها انتفاع، ولم نستطع أن نردها عن ما هي عليه، وقد عزمت على بيعها، قال: فقلت لها: الأمر كذلك؟ فأشارت برأسها: نعم، فقلت في نفسي: إنما عابها من جهلها، فأنشدت:

يعيبون ما لو أنهم فطنوا به … لكانوا أشذ الناس جيئًا لما عابوا

فقلت لها: أي آية قرئت عليك؟ قالت: قول ربك: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠)(٢) الآية، فمنذ سمعتها عزمت (صبري) (٣) وظهر لي ما ترى من أمري، وأنشدت:

ما بين منعرج اللوى والوادي … يا صاحبي ضحى عدمت فؤادي

ورجعت ذو وله وكم من عاشق … مقتول عشق ما له من فادي

يا أهل نجد ارحموا ذا لوعة … ما بين أطناب الخيام ينادي


(١) المجوس: عقيدتهم في تقديس الكواكب والنار.
(٢) سورة الذاريات [٥٠].
(٣) كذا بالأصل.

<<  <  ج: ص:  >  >>