للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قساوة، فمضيت إلى الشرطة، لعلي أعتبر بمن يعاقب في الدنيا، فوجدت قلبي لا يزداد إلا قساوة، فقلت: أمضي إلى المارستان لعلي أرتعد وأنزجر بمن ابتلي، فلما ولجت المارستان (١) وجدت قلبي قد انفسح، وصدري قد انشرح.

وإذا أنا بجارية من أنضر الناس وجهًا، عليها أطمار (٢) حسنة رفيعة، وشممت منها رائحة عطرة، عفيفة المنظر، وسيمة الخطر (٣)، وهي مقيدة الرجلين، مغلولة اليدين، فلما رأتني تغرغرت عيناها بالدموع، وأنشأت تقول:

أعندك أن تغل يدي … بغير جريرة سبقت

تغل يدي إلى عنقي … وما خانت وما سرقت

وبين جوانحي كبدًا … حنَّ بها قد احترقت

وحقك يا منى قلبي … يمينا برة صدقت

فلو قطتهما قطعًا … وحقك عنك ما رجعت

قال السري: فلما سمعت كلامها قلت لصاحب المارستان: ما هذه الجارية؟ قال: مملوكة اختل (٤) عقلها فحبسها مولاها لعلها تنصلح، فلما سمعت كلام القيم تشرَّفت (٥) بدموعها وجعلت تقول:

معشر الناس ما جننت ولكن … أنا سكرانة وقلبي صاحي

أغللتم يدي ولم آت ذنبا … غير جهدي في حبه وافتضاحي

أنا مفتونة بحب حبيب … لست أبغي من بابه من براحي

فصلاحي الذي زعمتم فسادي … وفسادى الذي زعمتم صلاحي

ما على من أحب مولى الموالي … وارتضاه لنفسه من جناحي

قال: سمعت كلامًا أقلقني وأشجاني (٦) وأحرفني وأبكاني، فلما رأت دموعي قالت: يا سري هذا بكاؤك على صفته، فكيف لو عرفته حق معرفته؟! ثم أغمي عليها ساعة، فلما أفاقت جعلت تقول:


(١) المارستان: المصحة أو المستشفى.
(٢) الطمر: الثوب الخلق البالي، جمعها: أطمار.
(٣) الخَطْر: اهتز وتبختر فهو خاطر.
(٤) اختل العقل: تغير واضطرب.
(٥) تشرَّفت: رفعت بصرها تنظر إليه.
(٦) أشجن الأمر فلانًا: أحزنه، والشجن: الهم والحزن، وجمعها: شجون وأشجان.

<<  <  ج: ص:  >  >>