للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ورحب بي وعظمني، فقلت له: هي أولى بالتعظيم مني؛ فما الذي تكره منها؟ فقال: أمور كثيرة: لا تأكل ولا تشرب، ذاهلة (١) العقل مدهوشة اللب، لا تنام ولا تدعنا ننام، كثيرة الفكرة، سريعة الدمعة، ذات زفرة وحنين وبكاء وأنين، وهي بضاعتي اشتريتها بكل مالي؛ بعشرين ألف درهم، وقلت: أنا أربح فيها مثل ثمنها لحسن صنعتها، قلت: وما صنعتها؟ قال: مطربة، قلت: ومنذ كم كان بها هذا الداء؟ قال: منذ سنة، قلت: وما كان بدؤه؟ قال: بينما العود في حجرها وهي تغني وتقول:

وحقك لا نقضت الدهر عهدا … ولا كدَّرت بعد الصفو ودًّا

ملأت جوانحي (٢) والقلب وجدا … فكيف ألَذُّ وأسلو وأهدى

فيا من ليس لي مولى سواه … تُرَاكَ رضيتني في الناس عبدا

ثم كسرت العود وقامت وبكت، فاتهمتها بمحبة إنسان، فَكَشَفْتُ عن ذلك فلم أجد له أثرًا، فقلت لها: هكذا كان الحديث، فأجابتني بلسان طلق وقلب محزون وهي تقول:

خاطبني الحق من جناني … فكان وعظي على لساني

قربني منه بعد بُعد … وخصني اللَّه واصطفاني

أجيب لما دعيت طوعًا … ملبيا للذي دعاني

وحققت مما جنيت قدما … فوقع الحب بالأماني

قال السري: فقلت له: على الثمن وأزيدك، فصاح وقال: وافقداه من أين لك ثمن هذه وأنت رجل فقير؟!! فقلت له: لا تعجل عليَّ تكون في المارستان حتى آتي بثمنها، ثم ذهبت باكي العين حزين القلب، وواللَّه ما عندي من ثمنها درهم، وبقيت طول الليل أتضرع، فلم أغمض، وأقول: يا رب إنك تعلم سري وجهري، وقد عودتني على فضلك فلا تفضحني، فبينما أنا في المحراب إذا بقارع يقرع الباب، فقلت: من بالباب؟ فقال: حبيب من الأحباب؟ جاء في سبب من الأسباب، بأمر الملك والوهاب، ففتحت الباب، وإذا برجل معه أربعة غلمان وشمعة، فقال: يا أستاذ تأذن لي بالدخول؟ فقلت: ادخل، فدخل، فقلت له: من أنت؟ قال: أحمد بن المثنى قد أعطاني من إذا أعطى لا يبخل بالعطاء، كنت الليلة نائمًا، فهتف بي هاتف


(١) ذهل الأمر وعنه ذهلًا وذهولًا: نسيه وغفل عنه، وذهل ذهولًا: تدلَّه وغاب عن رشده، وأذهله الأمر: جعله يذهل.
(٢) الجانحة: الضلع القصيرة مما يلي الصدر، وجمعها جوانح.

<<  <  ج: ص:  >  >>