للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال لي: خذ خمس بدرات (١) إلى السري يطيب بها نفسه، ويشتري بها تحفة، فإن لنا بها عناية، فسجدت شكرًا للَّه على ما أولاني من نعمة، وجعلت أتوقع الفجر، فلما صليت الصبح خرجت وأخذت بيد أحمد ومضيت إلى المارستان، فإذا بالموكل بها يتلفت يمينًا وشمالًا، فلما رآني قال: مرحبًا اُدخل فإن لها عند اللَّه عناية؛ هتف بي البارحة هاتف وهو يقول:

إنها منا تنال … ليس تخلو من نوال

ثم ترقَّت وعلت … في كل حال

قال السري: فلما رأتني تحفة تغرغرت عيناها بالدموع وقالت: شهرتني بين المخلوقين، ثم أنشأت تقول:

قد تصبرت حتى … عيل (٢) في حبك صبري

ضاق من عليَّ وقيدي … وامتهاني فيك صدري

ليسى يخفى عنك أمري … يا مُنَى سُؤْلي وذُخْري

قال: فبينما نحن جلوس إذ دخل مولاها باكي العين حزين القلب متغير اللون، فقلت له: لا تَبْكِ فقد جئناك بما وزنت، وربح خمسة آلاف، قال: لا واللَّه، قلت: وربح عشرة آلاف، قال: لا واللَّه، قلت: وربح المثل، قال لو أعطيتني الدنيا ما قبلت، هي حرة لوجه اللَّه تعالى، فقلت له: ما القصة؟ فقال: وُبِّختُ (٣) البارحة، أُشهدك أني قد خرجت من جميع مالي، اللهم ركن لي بالسعة كفيلًا، وبالرزق جميلا، فالتفت إلى ابن المثنى، فرأيته يبكي، قلت: ما يبكيك؟ قال: كأن الحق ما رضيني لمَّا ندبني إليه، أشهدك أني قد تصدقت بجميع ما لي لوجه اللَّه - تعالى.

فقامت تحفة ونزعت ما كان عليها ولبست مِدْرَعةً (٤) من شعر وهي تبكي، فقلنا لها: قد أطلقك اللَّه فما يبكيك؟ فأنشأت تقول:

هربت منه إليه … بكيت فيه عليه

وحقه فهو سُؤلي … لا زلت بين يديه

ومتى أنال وأحظى … بما رجوت لديه؟

قال: ثم خرجنا من الباب، فلما صرنا في بعض الطريق فطلبناها فلم نجدها،


(١) البدرة: كيس فيه مقدار من المال يتعامل به ويقدم في العطايا، ويختلف باختلاف العهود، وجمعها: بِدَر.
(٢) عِيلَ صبره: نفد: فهو معول.
(٣) وبَّخه: لامه وعذله.
(٤) الدُّرَّاعة: ثوب من صوف.

<<  <  ج: ص:  >  >>