للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثانية: عن خير النساج قال: كنا في المسجد فجاء الشبلي في سكره -أي في حالِ وَرَدَ عليه- فنظر إلينا ولم يكلمنا، وهجم على الجنيد وهو جالس في بيته وعنده زوجته، فارادت أن تستتر، فقال لها الجنيد (١): لا عليك هو غائب لا علم له بك، فصفق الشبلي على رأس الجنيد وأنشأ يقول:

عودوني الوصال والوصل عذب … ورموا بالصدود والصد (٢) صعب

زعموا حين عاينوا أن جرمي … فرط (٣) حبي لهم وما ذاك ذنب

لا وحق الخضوع عند التلاقي .... ما جزى من يحب إلا بحب

فاهتز الجنيد وقال: هو ذاك يا أبا بكر، فخر مغشيًا عليه، ثم بعد ساعة بكى الشبلي، فقال الجنيد لامرأته: استتري عنه فقد أفاق.

الثالثة: عن ذي النون المصري (٤) قال: رأيت في جبل لبنان في كهف رجلًا أبيض الرأس واللحية، أشعث أغبر نحيفًا وهو يصلي، فسلمت عليه بعد ما سلم، فرد السلام وقام إلى الصلاة فما زال راكعًا وساجدًا حتى صلى العصر، ثم أسند إلى حجر وجعل يسبح (٥) ولا يكلمني، فقال له: رحمك اللَّه ادع اللَّه ﷿ لي، فقال: آنسك اللَّه بقربه، فقلت: زدني، فقال: يا بني من آنسه بقربه أعطاه أربع خصال: عزًا


(١) الجنيد بن محمد بن الجنيد أبو القاسم النهاوندي الأصل، البغدادي القواريري الخزاز، وقيل: كان أبوه قواريريًا يعني زجاجًا، وكان هو خزازًا، كان شيخ العارفين وقدوة السائرين وعلم الأولياء في زمانه، ولد ببغداد بعد العشرين ومائتين، وتفقه على أبي ثور، وسمع من الحسن بن عرفة وغيره، واختص بصحبة السري السقطي، وأبي حمزة البغدادي، وأتقن العلم، ثم أقبل على شبابه واشتغل بما خلق له، وحدث بشيء يسير. توفي سنة [٢٩٨].
(٢) صدَّ عنه صدًا وصدودًا: أعرض عنه، وفلانًا عن كذا صدًّا: منعه وصرفه.
(٣) الفَرْط: تجاوز الحد، يقال: من فرط شغفه به أو كرهه له.
(٤) ذو النون المصري الزاهد، اسمه ثوبان بن إبراهيم، ويقال: أبو الفياض بن أحمد، ويقال: ابن إبراهيم أبو الفيض، ويقال أبو الفياض الإخميمي، وأبوه نوبي، روى عن مالك والليث وابن لهيعة وفضيل بن عياض وسفيان بن عيينة وسلم الخواص وجماعة، وعنه أحمد بن صبيح الفيومي وربيعة بن محمد الطائي والجنيد بن محمد ومقدام بن داود الرعيني والحسن بن مصعب النخعي وغيرهم، وقال ابن يونس: كان عالمًا فصيحًا حكيمًا أصله من النوبة، توفى سنة [٢٤٦]. "تاريخ الإسلام، وفيات [٢٤١ - ٢٥٠] ".
(٥) روى البخاري في صحيحه [٨٤٤] كتاب الأذان [١٥٥] باب الذكر بعد الصلاة، عن المغيرة بن شعبة، أن النبي كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: "لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد".

<<  <  ج: ص:  >  >>