للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تقول: بحبك لي إلا فعلت كذا وكذا، فناديتها عند ذلك: لا تقولي هكذا، لكن قولي بحبي إياك، فقالت: يا سيدي: لولا حبه إياي ما أقعدك وأقامني، فلما أصبحت دعوتها وقلت: إنك لا تصلحين لخدمتي بل تصلحين لخدمة مولاك الأكبر، اذهبي فأنت حرة لوجه اللَّه، ثم وصلتها بشيء وسرحتها وندمت على مفارقتها.

الثانية عشرة: عن أبي الأشهب السايح قال: بينما أنا أطوف إذا بجارية تعلقت بأستار الكعبة وهي تقول:

يا وحشتي بعد أنسي … ويا ذلي بعد العز

ويا فقري بعد الغنى

فقلت لها: مالك، أذهب لك مال؟ أو أُصِبْتِ بمصيبة؟ قالت: لا ولكن كان لي قلب فقدته وأنشدت:

كان لي قلب أعيش به … ضاع مني في تقلبه

رب فاردُدْ عليَّ فقد … عيل (١) صبري في تَطَلُّبه

وأغث ما دام بي رمق (٢) … يا غياث المستغيث به

فقلت لها: هذه مصيبتك؟ قالت: وأي مصيبة أعظم من فقد القلوب وانقطاعها عن المحبوب؟ فقلت لها: إن حسن صوتك قد عطّل من سمعه عن الطواف، فقالت: يا شيخ البيت بيتك أم بيته؟ قلت: بيته، قالت: الحرم حرمك أم حرمه؟ قلت: بل حرمه، قالت: فدعنا نتدلل عليه على قدر ما استرارنا إليه، ثم قالت: بحبك لي إلا ما رددت عليَّ قلبي، فقلت لها: من أين تعلمين أنه يحبك؟ فقالت: جيَّش من أجلي الجيوش (٣)، وأنفق الأموال، وأخرجني من دار الشرك وأدخلني دار التوحيد (٤) وعرفني نفسه بعد جهلي إياه، فهل إلا لعناية؟ قلت: فكيف حبّك له؟ قالت: أعظم شيء وأجله، قلت: وتعرفي الحب؟ قالت: فإذا جهلته فأي شيء أعرف به حلو المجتبى ما اقتصر، فإذا أفرط عاد حبلًا قاتلًا، وفسادًا معضلًا، وهي شجرة غرسها


(١) عيل صبره: نفد، فهو معول.
(٢) الرمق: بقية الروح، وجمعها: أرماق.
(٣) تقصد الفتوحات الإسلامية التي وصلت إلى بلادها، وأدخلتها في الإسلام، وكانت هذه نعمة عظيمة تَكَرَّم اللَّه بها عليها.
(٤) روى البخاري في صحيحه [٢٥] كتاب الإيمان، [١٧] باب ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُم﴾ [التوبة: ٥] عن ابن عمر: أن رسول اللَّه قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على اللَّه".

<<  <  ج: ص:  >  >>