للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أصحابه: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، غفلة دخلت على الشيخ بلا شك، ثم قال: يا سيدي ما هذا النظر الذي يخالطه البكاء؟ فقال له إبراهيم إني عقدت مع اللَّه عهدًا لا أفسخه، هذا الفتى ولدي تركته صغيرًا فارًّا إلى اللَّه، وإني لأستحي أن أعود إلى شيء خرجت عنه، وأنشدوا:

ولا عرضت لى نظرة مذ عرفته … مدى الدهر إلا كان لي حيث أنظر

أغار على طرفي له فكأنني … إذا رام طرفي غيره لست أبصر

أيا منتهى سؤلي وذخري (١) وعدتي … ودادك في قلبي إلى يوم أُحشر

ثم قال لي: امض وسلم عليه لعلي أتسلى بسلامك عليه، وأبرد نارًا على كبدي، فأتيته وقلت: بارك اللَّه فيك لأبيك، قال: يا عم وأين أبي؟ إنه خرج فارًا إلى اللَّه، ليتني أراه ولو مرة واحدة، وتخرج نفسي عند ذلك، هيهات، وخنقته العبرة، وقال: واللَّه أود لو أني رأيته وأموت في مكاني، ثم بكى وأنشد:

لقد حكم الزمان عليَّ حتى … يراني في هواك كما تراني

حبيبي إن بعدت فإن قلبي … على مرّ الزمان إليك دابي

وإن بعدت ديارك عن دياري … فشخصك ليس يبرح عن عياني

لقد أسكنت حبك في فؤادي … مكانا ليس يعرفه جناني

كأنك قد ختمت على ضميري … فغيرك لا يمر على لساني

ثم رجعت إلى إبراهيم وهو ساجد وقد بل الحصى بدموعه وهو يتضرع للَّه ويقول:

هجرت الخلق طرًا (٢) في رضاكا … وأيتمت العيال لكي أراكا

فلو قطعتني في الحب إربًا … لما سكن الفؤاد إلى سواكا

قال: فقلت: ادع اللَّه له، فقال: حجبه اللَّه عن معاصيه وأعانه على ما يرضيه.

الثالثة: عن يوسف بن الحسين قال: بلغني أن ذا النون يعلم اسم اللَّه الأعظم (٣) فخرجت من مكة قاصدًا إليه حتى وافيته في جزيرة مصر، فأول ما بصرني


(١) ذخر الشيء ذُخرًا وذَخرًا: جمعه وحفظه لوقت الحاجة إليه.
(٢) طرَّ طرًّا وطرورًا: كان طريرًا ذا رواه وجمال، والطرَّة ما تتزين به المرأة من الشعر الموفى على جبهتها بالقص والتصفيف.
(٣) روى أبو داود في سننه [١٤٩٣] عن بريدة أن رسول اللَّه سمع رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت اللَّه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، فقال: "لقد سألت اللَّه باسمه الذي إذا سُئِلَ به أعطى، وإذا دعي به أجاب" وفيه برقم [١٤٩٥] عن أنس أنه =

<<  <  ج: ص:  >  >>