للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحكاية الحادية عشرة: قال عروة: لقد رأيت عائشة تقسم سبعين ألفًا وهي ترقع درعها (*).

الثانية عشرة: حكي أنه كان لهارون الرشيد (١) ولد قد بلغ من العمر ست عشرة سنة، وكان قد رافق الزهاد والعباد، وكان يخرج إلى المقابر ويقول: قد كنتم قبلنا، وقد كنتم تملكون الدنيا، فما أراها تنجيكم، وقد صرتم إلى قبوركم، فيا ليت شعري: ما قلتم وما قيل لكم؟ ويبكي بكاء شديدًا، وكان ينشد:

ترف عني الجنائز كل يوم … ويحزنني بكاء النائحات

فلما كان في بعض الأيام مر على أبيه وحوله وزراؤه وكبار دولته وأهل مملكته، وعليه جبة صوت، وعلى رأسه مئزر صوت، فقال بعضهم لبعض: قد فضح هذا الولد أمير المؤمنين بين الملوك، فلو عاتبه لعله يرجع عما هو عليه؟ قال: فكلمه في ذلك، فقال: يا بني لقد فضحتني بما أنت عليه، فنظر إليه ولم يجبه، ثم نظر إلى طائر على شرفة من شراريف القصر، فقال: أيها الطائر بحق الذي خلقك إلا ما جئت على يديّ. فانقض الطائر على كف الغلام، ثم قال: ارجع إلى موضعك، فرجع على موضعه، فقال: بحق من خلقك إلا ما سقطت في كف أمير المؤمنين، فما نزل، فقال له الغلام: أنت الذي فضحتني بحبك الدنيا، وقد عزمت على مفارقتك، ففارقه ولم يتزود منه بشيء إلا مصحفًا، وانحدر إلى البصرة.

وكان قد وقع في جداري حائط، فخرجت أطلب من يعمله، فرأيت غلاما لم أر أحسن منه وجهًا، وبين يديه زنبيل، وهو يقرأ في مصحف، فقلت له: يا غلام أتعمل؟ قال: ولم لا أعمل وللعمل خلقت؟ ولكن أخبرني في أي الأعمال تستعملني؟ قلت: في الطين. قال: بدرهم ودانق، وأصلي صلاتي؟ قال: لك ذلك، ثم مضيت به إلى العمل وتركته يعمل، فلما كان آخر النهار وجدته عمل عمل عشرة رجال. فوزنت له درهمين فأباهما إلا درهمًا ودانقًا.

فلما كان من الغد خرجت إلى السوق فلم أجده، فسألت عنه فقيل لي: إنه لا يعمل إلا يوم السبت، ثم لا نراه إلا يوم السبت الثاني، فأخرت العمل إلى الثاني ثم أتيته، فوجدته، فقال لي مثل الأول، فمضيت به إلى العمل، فوقفت أنظر إليه من بعيد


(*) ذكره الذهبي في تاريخ الإسلام، وفيات سنة (٥١ - ٦٠) وفيه أيضًا عن عروة، رأيتها تصدق بسبعين ألفًا، وإنها لرفع جانب درعها.
(١) هارون الرشيد من أشهر أمراء الدولة العباسية، وقد بلغت فيها الدولة الإسلامية أعظم قوتها واتساعها، وكانت تهابه ملوك العجم من الروم والفرنج.

<<  <  ج: ص:  >  >>