للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهو لا يراني، فأخذ كفا من طين وتركه على الحائط وإذا الحجارة تتركب بعضها على بعض، فقلت: هكذا أولياء اللَّه يعانون. فلما أراد أن ينصرف وزنت له ثلاثة دراهم فأبى أن يقبلها، ولم يقبل سوى درهمًا ودانقًا (١).

فلما كان السبت الثالث جئت على السوق فلم أره، فسألت عنه، فقيل لي: له ثلاثة أيام وجِعٌ يعالج سكرات الموت، فوهبت أجرة لمن يدلني عليه، ومشينا حتى وقفنا عليه في خراب بلا باب، وإذا هو مغشى عليه، فسلَّمت عليه، فإذا تحت رأسه نصف لبنة وهو في حال الموت، فسلمت عليه ثانية فعرفني، فأخذت رأسه فجعلته في حجري فمنعني من ذلك، وأنشأ يقول:

يا صاحبي لا تغترَّ (٢) بتنعم … فالعمر ينفد والنعيم يزول

وإذا علمت بحال قوم مرة … فاعلم بأنك عنهم مسئول

وإذا حملت إلى القبور جنازة … فاعلم بأنك بعدها محمول

فقلت: يا حبيبي، ولم لا أكفنك في ثياب جديدة؟ فقال: الحي أحوج إلى الجديد من الميت، الثياب تبلى والعمل يبقى، وخذ مئزري وسروالي فادفعهما للحفار، وخذ هذا المصحف والخاتم فادفعهما إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد، ولا تدفعهما إلا من يدك إلى يده، وقل له: يا أمير المؤمنين معي وديعة من غلام غريب، وهو يقول لك: لا تموتنَّ على غرَّتك، أو قال على غفلتك، ثم خرجت روحه. . فعلمت أنه ولد الخليفة، وعملت كل ما أوصاني به، وأخذت المصحف والخاتم ودخلت بغداد، وقصدت هارون الرشيد ووقفت في موضع مشرف، فخرج موكب في تقدير ألف فارس، ثم تبعه عشرة مواكب، كل موكب ألف فارس، وخرج أمير المؤمنين في الموكب العاشر، فناديت: بقرابتك من رسول اللَّه يا أمير المؤمنين إلا ما وقفت لي قليلًا، فلما رآني قلت: يا أمير المؤمنين معي وديعة من غلام غريب، ثم دفعت إليه المصحف والخاتم، وقلت له ما أوصاني به.

فنكَّس رأسه وأسال دمعته، وأوصى عليَّ بعض الحجَّاب وقال: ليكن هذا عندك إلى أن أسألك عنه. فلما رجع هو وأصحابه أمر بالستور فرفعت ثم قال للحاجب: هات الرجل، وإن كان يُجدِّد عليَّ أحزاني، فقال لي الحاجب: يا أبا عامر إن أمير المؤمنين مهموم، فإذا أردت أن تكلمه عشر كلمات فاجعلها خمسا، فقلت: نعم.

ودخلت عليه، فإذا مجلسه خالٍ، فلما رآني قال: ادن مني يا أبا عامر، فدنوت


(١) الدانق: سدس الدرهم، جمعها: دوانق، ودوانيق.
(٢) غرَّ الرجل غرة: جهل الأمور وغفل عنها، واغتر فلان، غفل، وبكذا: خُدع به.

<<  <  ج: ص:  >  >>