للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فتاقت إليه، ولا يمكن الوصول إليه إلا بترك الدنيا.

التاسعة عشرة: سئل حاتم الأصم (١) فيما أفنيت عمرك؟ فقال: في أربعة أشياء: علمت أني لا أخلو من نظر اللَّه طرفة عين فاستحييت أن أعصيه. وعلمت أن لي رزقا لا يجاوزني، وقد ضمنه لي فوثقت به عن طلبه، وعلمت أن عليَّ فرضًا لا يؤديه غيري فاشتغلت به، وعلمت أن لي أجلا يبادرني فبادرته. وقد سلف في المراقبة.

العشرون: عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (٢) أنه خرج حاجًا، ولما نظر إلى البيت بكى حتى علا صوته، فقيل له: إن الناس ينظرون إليك، فلو رفقت صوتك قليلًا. فقال: ولم لا أبكي؟ لعل اللَّه ينظر إليَّ برحمة منه فأفوز بها عنده غدًا. ثم طاف وركع خلف المقام ورفع رأسه من السجود فإذا موضع سجوده مبتل بدموع عينيه. فقال لبعض أصحابه: إني لمحزون، وإني مشتغل القلب. فقيل له: لِمَ؟ قال: إنه من دخل قلبه صافي خالص دين اللَّه شغله عما سواه، وما عسى أن تكون الدنيا؟ هل هو إلا مركب ركبته، أو ثوب لبسته، أو امرأة استحسنتها، أو أكلة أكلتها؟ أو كما قال (٣).

الحادية بعد العشرين: قال كعب: استخرجت من التوراة خمس عشرة كلمة فجعلتها في قصبة وربطتها في عنقي، فكنت أقرأها كل يوم خمس عشرة مرة.

أولها: يقول اللَّه: يا ابن آدم لا تخف فوت الرزق ما دامت خزائني مملوءة، وخزائني مملوءة لا ينفد ما فيها أبدًا.

ثانيها: يا ابن آدم لا تخافن من ذي سلطان ما دام سلطاني باقيًا، وسلطاني باق لا ينفد أبدا.


(١) حاتم الأصم، أبو عبد الرحمن البلخي الزاهد الناطق بالحكمة، له كلام عجيب في الزهد والوعظ، وكان يقال له لقمان هذه الأمة، وصحب شقيق البلخي وتأدب بآدابه.
قال أبو تراب: سمعت حاتم الأصم يقول: لي أربع نسوة، وتسعة أولاد ما طمع شيطان أن يوسوس في شيء من أرزاقهم.
(٢) محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو جعفر، الهاشمي، الباقر، العلوي الفاطمي المدني القرشي، زين العابدين، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو ثقة فاضل.
[تهذيب التهذيب (٩/ ٣٥٠)، تقريب التهذيب (٢/ ١٩٢)].
(٣) روى مسلم في صحيحه [٤ - (٢٩٥٩)] كتاب الزهد، في المقدمة، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه قال: "يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاث؛ ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأبقى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس".

<<  <  ج: ص:  >  >>