ثم قال: يا أبا عبد البر قم في مقام التبتل (١)، وقف موقف التنصل متعرضا للفضل بخشوع التذلل للقبول بلسان التوسل على العزيز المتفضل.
قال: قلت: يا سيدي ما أحسن هذا.
قال: هو من دعاء خاصة لملك، أفهمت.
قلت: نعم إن شاء اللَّه تعالى، ثم مسح بيده على بطني وصدري، فانتبهت فإذا أنا ذاكر لما خاطبني به، وما ذهب عني حرف.
قال السري: حدثنا أبو عبد البر عند صلاة الفجر بهذا الحديث فاستحسناه وكتبناه - رحمة اللَّه تعالى.
الحادية عشر: قال بعض الصالحين: صعدت جبل لبنان مع نفر نلتمس رجلا من العباد الزهاد المقيمين فيه، فسرنا ثلاثة أيام، فضربت على رجلي، فجلست على جبل شامخ، ومضى أصحابي يدورون في الجبل على أن يرجعوا إلي، فلم يعودوا وبقيت وحدي على غد ذلك اليوم، وطلبت ماء لأتطهر به للصلاة، فوجدت أسفل الجبل عينا فتوضأت منها، وقمت أصلي فسمعت صوت قارئ فلما فرغت من الصلاة اتبعت الصوت، فوجدت كهفا فدخلته فإذا فيه رجل ضرير جالس فسلمت عليه، فرد علي السلام.
وقال لي: أجني أنت أم إنسي؟
فقلت: بل إنسي.
فقال: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، ما رأيت ههنا إنسا منذ ثلاثين سنة غيرك ثم قال لي: لعلك تعبت، اطرح نفسك، فدخلت داخل الكهف فرأيت ثلاثة قبور صفا، فنمت عندها، فلما كان وقت صلاة الظهر صاح بي الصلاة يرحمك اللَّه، ولم أر رجلا أعرف بأوقات الصلاة منه.
فصليت معه، ثم قام يصلي، فلم يزل يصلي إلى العصر، قام قائمًا يدعو فسمعته يقول في دعائه:"اللهم أصلح أمة محمد، اللهم ارحم أمة محمد، اللهم فرج عن أمة محمد ﷺ"
فلما صلينا المغرب قلت له: من أين لك هذا الدعاء؟
قال: من دعا به كل يوم ثلاثة مرات كتبه اللَّه من البدلاء.
فقلت له: من علمك هذا الدعاء؟
(١) تبتل إلى اللَّه: تفرغ لعبادته، بتَّل عمله للَّه: أخلصه من الرياء، وانبتل: انقطع.