للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نفعًا، لو كنت أكبر ملوكهم ما بلغته من الدفع عنهم، وأدفع عنهم أذى الكفار، وأفعل في الكفار من القتل وشبهه ما لو كنت أعظم ملوك الإسلام ما فعلت، وسأريك بعض تصرفي فيهم، ثم ودعني وودعته، وقال لي: ارجع إلى حالتك، وأخفيت نفسي واحتجبت، فخرج الملك وقعد على باب الكنيسة، وقال: ائتوني بكل من يختص بالكنيسة، فأحضروا له جماعة وعرضوهم عليه، وقالوا هذا بطريقها (١)، وهذا شمَّاسها (٢)، وهذا راهبها (٣)، وهذا مشارف أوقافها، وهذا جابي ريعها، قال: فمن يخدمها؟ قالوا فلان اشترى أسيرًا، ووقفه على خدمتها، فأظهر غضبًا عظيمًا، وقال: تكبرتم الجميع على خدمة بيت الرب، وجعلتم رجلا من غير الملة نجسًا يخدم بيت الرب، فاستدعى بالسيف، وجعل يضرب رقاب الجميع في حجة الغيرة على بيت الرب، وأمر بإحضاري فقال: هذا يستحق في مقابلة الخدمة الإكرام والتعظيم والخلع والمركوب وإطلاقه إلى وطنه وأهله، ففعلوا بي ذلك، وانصرفت عنه.

الثالثة: عن محمد بن يعقوب الخراساني قال: خرجت من بلدي على نية السياحة (٤) والتوكل، فلم أزل على ذلك إلى أن أتيت بيت المقدس، ثم وقفت في مغارة (بنية) (٥) بني إسرائيل، فمكثت أياما لم أطعم طعامًا، ولم أشرب شرابًا حتى أشرفت على الموت، فبينا أنا كذلك إذ رأيت راهبين يسيران أشعثان أغبران، فملت إليهما، وسلمت عليهما، وقلت لهما: أين تريدان؟ فقالا: لا ندري، قلت: أتدريان أين أنتما؟ قالا: نعم؛ نحن في مملكته وبين يديه، قال: فأقبلت على نفسي بالملامة وحالهما مع كفرهما، ثم استأذنتهما في الصحبة وسرنا، فلما أمسينا قاما إلى صلاتهما ومعبودهما، وقمت إلى صلاتي ومعبودي، فصليت المغرب بالتيمم، فنظرا إليَّ متبسمين ضاحكين، وبحث أحدهما الأرض وإذا بالماء قد ظهر كأنه اللؤلؤ على الصفا، فبُهت، ثم إذا بطعام موضوع عن يمينه، فتعجبت، فقال مم تعجبك، تقدم وتناول من الطعام الحلال، واشرب من بارد هذا الزلال، واعبد ربك الكريم ذا الجلال، فأكلت وشربت وتوضأت، وأعدت الصلاة، ثم غار الماء كأنه لم يكن، ثم صلينا إلى الصباح، ثم سرنا إلى الليل، فتقدم الراهب الثاني، وصلى ودعا بدعوات


(١) البطريق: القائد من قواد الروم، ويطلق على رئيس رؤساء الأساقفة.
(٢) الشماس: من يقوم بخدمة الكنيسة، ومرتبته دون القسيس.
(٣) الراهب: المتعبد من النصارى في صومعة يتخلى فيها عن أشغال الدنيا وملاذها.
(٤) السائحون: قال ابن كثير: الصائمون، وقال ابن عباس: كل ما ذكر اللَّه في القرآن السياحة هم الصائمون انظر تفسير ابن كثير [٢/ ٤٠٠].
(٥) كذا بالأصل.

<<  <  ج: ص:  >  >>