للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال ابن السماك: وكان أبوه شيخا كبيرًا فسألني يومًا أن أكلم ولده يرفق بنفسه.

فبينما أنا ذات يوم جالس على باب داري، ومعي جماعة من أصحابي إذ مر الغلام فناديته: يا فتى إلينا، فأقبل فتأملته، فإذا هو قد صار كالشنِّ البالي لو هبت الريح لرمت به من شدة الضعف، فسلم وجلس، فقلت حبيبي: إن اللَّه قد افترض عليك طاعة أبيك وطاعته، ونهاك عن معصيته كمعصيته.

وإن أباك قد أمرنا بأمر فتأذن لنا بالكلام فيه؟ فقال: يا عم لعلك تريد أن تأمرني بتقصير في العمل وترك المبادرة إلى اللَّه.

فقلت له: لا واللَّه بدون هذا، يردك هذا الشأن الذي تطلب إن شاء اللَّه.

فقال: هيهات إني بايعت على هذا الشأن فتية من الحي على السباق، فجروا واجتهدوا ودعوا فأجابوا ولم يبق غيري، وعملي يعرض عليهم كل يوم مرتين، فما يقولون إذا رأوا خللًا أو تقصيرا؟ ثم قال: يا عم إني بايعت على هذا الشأن فتية فجعلوا الليل لهم مطية.

فقطعوا بها عرض المفاوز وسموا بها ذري الشواهق وإذا أصبحوا نظرت إليهم قد ذبحهم الليل بسكاكين السهر، وفصلت أعضاؤهم بخناجر التعب وخمص البطون من (السدا) (١).

لا يقر لهم قرار، ولا يجاورون الأشرار، دُعُوا فأجابوا الملك الجبار.

قال ابن السماك: فتركنا واللَّه في حيرة ومضى، وما كان إلا ثلاثة أيام حتى قيل: مات الفتى - رحمة اللَّه عليه.

الحادية عشر: عن بعضهم قال: سألت اللَّه تعالى أن يريني مقامات أهل المقابر، فرأيت في منامي في ليلة من الليالي كأن القيامة قد قامت والقبور قد انشقت، وإذا منهم النائم على السندس، ومنهم النائم على الحرير والديباج، ومنهم النائم على الريحان، ومنهم النائم على السرر، ومنهم الضاحك ومنهم الباكي.

فقلت: يا رب لو شئت ساويت بينهم في الكرامة قال: فنادى مناد من أهل القبور: يا فلان هذه منازل الأعمال، أما أصحاب السندس فهم أهل الخلق الحسن (٢). وأما أصحاب الحرير والديباج فهم الشهداء، وأما أصحاب الريحان فهم


(١) كذا بالأصل.
(٢) روى الترمذي في سننه [١٩٨٧] كتاب البر والصلة، باب ما جاء في معاشرة الناس، عن أبي ذر قال: قال لي رسول اللَّه : "اتق اللَّه حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" وقال أبو عيسى: حسن صحيح.

<<  <  ج: ص:  >  >>