للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بُدٌّ، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: "يا أبا هرّ". قلت: لبيك يا رسول اللَّه.

قال: "خُذْ فأعطهم". قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرُد علي القدح فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرُد عليَّ القدح فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي وقد روى القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إليَّ فتبسم فقال: "أبا هِرّ". قلت: لبيك يا رسول اللَّه. قال: "بقيت أنا وأنت". قلت: صدقت يا رسول اللَّه. قال: "اقعد فاشرب". فقعدت فشربت، فقال: "اشرب". فشربت، فما زال يقول: "اشرب" حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكًا. قال: "فأرني". فأعطيته القدح فحمد اللَّه وسمَّى وشرب الفضلة". أخرجه البخاري (١) وفيه بيان ما يؤدي إليه نقص ذلك من الشدة والألم والذِّلَّة والتعوق عن الخير وأنواع الهلع والمنافسة ونحو ذلك، فأي شدَّة كموجب وضع الكبد على الأرض والاعتماد بها عليها؟! وأي ألم كموجب شدِّ الحجر على البطن؟! وأي ذِلَّة وتشاغل كالقعود على طرق المارة للاستعطاء؟! وأي هلع كقوله: فساءني ذلك؟! وأي منافسة كقوله: كنت أحق أن أصيب منه شربة أتقوى بها؟! فلله دُرَّهُم بصائر مثل هذا من أجل صحبة نبي اللَّه واقتباس دين اللَّه والحرص على مراضي اللَّه. ولقد شكر العظيم له ذلك بجبر كسره ورفع قدره وإعلاء ذكره ورزقه الإمرة مع أنه كان قادرا على الصفق في الأسواق كغيره، لكن آثر الصحبة ولو جرى ما جرى.

الثالث عشر: حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: "لقد رأيتني وإني لأخرُّ فيما بين منبر رسول اللَّه إلى حجرة عائشة مغشيًّا عليَّ فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون وما بي جنون، ما بي إلَّا الجوع" (٢). أخرجه البخاري. وفيه بيان ما هو أشد من ذلك من زوال العقل وسقوط القوى رأسًا.

الرابع عشر: حديث عائشة قالت: "توفي رسول اللَّه ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعا من شعير" (٣). أخرجاه. وفيه بيان ما يؤدي إليه من الدين


(١) أخرجه البخاري في صحيحه (٦٤٥٢) في الرقاق [١٧] باب كيف كان عيش النبي وأصحابه وتخليهم من الدنيا.
(٢) أخرجه البخاري في صحيحه (٧٣٢٤) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، [١٦] باب ما ذكر النبي وحض على اتفاق أهل العلم، والترمذي في سننه (٢٣٦٧) كتاب الزهد [٣٩] باب ما جاء في معيشة أصحاب النبي .
(٣) أخرجه البخاري في صحيحه (٢٥٠٩) كتاب الرهن، [٢] باب من رهن درعه، وابن أبي شيبة في =

<<  <  ج: ص:  >  >>